x

وليد علاء الدين مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة (2-5) وليد علاء الدين الأربعاء 27-01-2016 21:36


في حياتي لم أمتلك الجرأة للمشاركة في مظاهرة، في الواقع لم تتسنّ لي الفرصة أصلًا لاختبار الأمر، فأنا أولًا من سكان الأقاليم؛ مدينة هادئة على النيل العظيم، وإن كان تاريخها يحتفظ بأول انتفاضة معاصرة ضد مركز شرطة اعتراضًا على قمع وقتل أحد المتهمين، ما زلت أتذكر الكثير من ملامح تلك الثورة كشاهد عيان «طفل»، وأعرف-منذ ذلك التاريخ- رائحة الغاز المسيل للدموع وشكل قنابله، وأفهم معنى حظر التجول وصوت طلقات النار، وأحتفظ في ذاكرتي بكل ما قيل من قصص -بلغت حد الأسطورة- عن مأمور القسم الذي هرب في زي امرأة... وعن سبب قسوته على المتهم إلى حد قتله لأن للأعراض علاقة بالأمر وغيرها من حكايات. . .، ربما أرويها ذات يوم.

ولكنني بالفعل لم أشارك من قبل في مظاهرة أو وقفة اعتراضية أو إضراب أو اعتصام، فأنا بلا فخر -وبلا خجل كذلك- من هذا الجيل مُقلَّم الأظافر الذي تشكل كلُّ وعيه تحت مظلة حكم مبارك (تولى الحكم وعمري أقل من 9 سنوات، وكنت مع أبي أمام التليفزيون الأبيض والأسود عندما وقعتْ حادثة المنصة التي راح ضحيتها الرئيس السادات).

حين التحق جيلي بالدراسة الثانوية كانت خطط «مبارك» وحكوماته المتعاقبة قد نجحت في تحويل هذه الشهادة إلى غول يختطف أرواح الأولاد والبنات مبكرًا فيحولهم إما إلى مسوخ لا همَّ لها سوى التهام الكتب أو إلى قرود منبوذة من رحمة المجتمع -وبالطبع من تنسيق الجامعات -مهما كانت مواهبهم وقدراتهم.

وحين التحقتُ بالجامعة كان النظام قد نجح في تحويلها إلى كيانات مُفرّغة من معناها، لا دور لها، أساتذتها- أول قطفة من جيل الانفتاح- مُنشغلون بتجهيز مذكرات وكتبٍ رديئة وضمان بيعها بأعلى سعر ممكن للطلاب، وطلابها مرتبكون يحاولون معرفةَ سكك ومسارب النجاح تحت وطأة غياب المعايير وانكسار أبسط معادلات الحياة: «ذاكر تنجح» لتحل محلها معادلات أخرى كثيرة تختلف باختلاف الجامعة ومستواها ومكانها ومستويات طلابها وعلاقات أساتذتها.

كانت هذه هي خلاصة الأفكار التي جالت بذهني سريعًا بينما تقمّصَ سائقُ التاكسي اللّماح دورَ المرشد السياحي، فهو بحكم عمله وحاسته المدربة- التقطَ أن الأفندي الجالس إلى جواره- وإن كان مصريًّا- فهو مغترب تفضحه نظراته المليئة بالدهشة إلى الشوارع والمباني، يفضحه ذلك الشجن الغريب والتأني في التقاط المشاهد، يفضحه ذلك القلق المنبعث من كيانه كله منذ أن فتح باب التاكسي، تفضحه حيرته أي نيضع حقيبته، تفضحه -بلا شك- كثير من الأمارات والعلامات التي جعلت سائق التاكسي الأريب يرى فيه الصيدَ المناسب لتغيير مزاج اليوم الذي يبدو أنه مرّ عليه عصيبًا.

«من صباحة ربنا والحال واقف» تلك كانت الجملة المفتاحية التي بادرني بها بعد أن انطلق في جولته الاستطلاعية ليرى –كما قال- إن كان شارع عبدالمنعم رياض مفتوحًا أم ما زال مغلقًا بسبب المظاهرات.

لا يعرف السائق العزيز أن مجاوره يرى فيه صيدًا كذلك؛ هو صيدي الذي أنتظرُ أن ينقل لي نبضَ الشارع والحياة، فأنا من هواة الدردشة مع سائقي التاكسيات في كل بلد زرته حول العالم، ولي معهم حكايات كتبت الكثير منها.

قلت له: «سمعت إنهم خايفين من مظاهرات النهارده!» لم يفكر الرجل في إجابته طويلًا، قال وقد رمقني بطرف عينه: «بيني وبينك، هي بلد عايزه الحرق بجاز وسخ!» وسَكَتَ، ربما انتظر مني ردة فعل تُعينه على اختيار جملته التالية، ولما لم يجد سوى الصمت قال: «بس هيعملوا إيه يعني! شوية عيال ولاد (... ) بتوع (فوسوبوك) كل واحد بنطلونه نازل على لا مؤاخذة (.. . ) ومش حاسين بحاجة!». ألقى الجملة وانتظرني، في الحقيقة كنت في حيرة من أمري؛ ملامح وجه الرجل ونظراته الجانبية الخاطفة تنطق بعكس ما يقول، وكان فضولي يقول لي: تريث يا ولد، حتى لا تضطره إلى مجرد مجاراتك فتفقد لحظة الصدق المرجوة.

أعدتُ في ذهني صياغة عدة عبارات رأيتها صالحة لاستكمال الحوار من دون توجيهه، ولكن أنقذني من البوح بأي منها مشهدُ بقايا إطارات سيارات محترقة أسفل كوبري الجلاء، ساعتها أشار إليها السائق وقال: «خَدوا هنا علقة محترمة. . .»، ومن دون أن أسأله، أضاف: «العيال بتوع الأمن المركزي شخخوهم في البستهم»، سألته: «يعني هما اللي مولعين في الكاوتش ده!» رمقني بجانب عينه واستكمل حواره: «دي عيال بتاخد مصروفها من بابا وماما»، لم أفهم إن كان مقصد عبارته أنهم غير قادرين على إشعال النار في الإطارات، أم أن ذلك معناه أنهم هم من فعل ذلك!

«يعني أنت راضي عن حال البلد؟» لم أجد سوى هذه الصياغة للسؤال بعدما أعيتني محاولة تحديد موقف الرجل. انتظرت منه وَصلة طويلة من شكوى الحال، إلا أنه فاجأني بإعادة السؤال إلى مرماي: «قللي حضرتك إيه اللي مش عاجبك، وأنا أجاوبك؟»

«يا ابن الإيه!»، بالطبع لم أنطق بهذه الجملة ولكنني سمعتها تصرخ بداخلي.

«باين عليك أمورك ماشية وبتكسب زي الفل!» كانت هذه محاولتي الأخيرة لإعادة الكرة إلى ملعب هذا الرجل العنيد، وللعجب فقد نجحت!

انفتحتْ وصلةُ شكوى الحال المعتادة، ولكنه استهلها بالعبارة المصرية شديدة البلاغة: «بالتيلة يا أستاذ»، والتيلة -لمن لا يعرف- هي جملة من خيوط التيل تُشدُّ معًا يستخدمها السباكون لربط الصواميل عندما تكون الصامولة أوسع من الماسورة حتى لا تتسرب المياه عبر الوصلة، ومعناها واضح عندما يستخدمها رجل للتعبير عن ضيق الرزق وصعوبة محاولات تأمينه.

ثم راح يصف لي حجم العمل المرهق الذي ينبغي عليه القيام به فقط من أجل جمع أقساط التاكسي وتوفير رزق اليوم، مضيفًا بتعبيرات وجهه التي نطقت بالمعنى قبل أن يبوح به لسانه: «هو بس لو فيه شوية وَسَعَ، إنما دي ضيقة أوي. . .، أوي يا باشا».

«إمال ليه بأه زعلان من العيال دي، ماهي طالعة تقول اتخنقنا!»، هنا تكررت نظرتُه الجانبية لي، ولم يعقّب كأنما يستحلب مرارة الكلمات التي يريد أن يواريها في حضرة الرجل الذي خاطبه منذ برهة بالباشا، رمقني مرات بطرف عينه ثم انفجر قائلًا: «ما هو ولاد الـ(. . .) دول، كل واحد هيجري على بيته ويعيط في حضن ماما أول ما يشوف العصاية، ومحدش بياكل الخرا غير الغلابة».

«يابن الإيه!» تكررت العبارة في ذهني، ولكنها كانت هذه المرة بسبب دهشتي من الخلطة النفسية العجيبة التي كشفها لي حالًا، والتي نجح النظام في تركيبها في عقول البشر، إنها الخلطة نفسها التي جعلت الجامعة مكانًا مُقلَّم الأظافر، وقبلها المدرسة، كيف تجعل الناس –بأنفسهم- يدافعون عنك كنظام يظلمهم ضد من يطالبون برفع الظلم؟ إنها خبرة شديدة التعقيد بلا شك تلك التي جعلت هذا السائق الناقم على حاله يكره من يحاول تغيير الحال ويخشى عواقب كل محاولة من هذا النوع وينتظر أن يدفع هو ثمنها!

«ما قلتليش هي المظاهرات كانت هنا وإلا في التحرير؟» لم يعطني ردًّا ذا صلة بالسؤال، بل نقل الحوار إلى مساحة أخرى تشي بالمصادر التي يستقي منها وجهة نظره، مرددًا عبارة رسمية شهيرة مضيفًا إليها بالطبع من تعبيرات وجهه ونبرة صوته ما جعلها تخصه تمامًا: «هما فاكرين مصر زي تونس؟».

أعادتني العبارة إلى جلسة قريبة قبل أقل من أسبوعين، زاملني فيها الصديق الناشر محمد البعلي في مقهى صغير في أبوظبي، تعلّقت أبصارنا خلالها بجهاز التليفزيون المعلق إلى الحائط، تحاصرنا أدخنة الشيشة بروائحها المختلفة المعلقة بأجواء المكان.

كان البعلي- للأمانة التاريخية- السبب في متابعتي للموقف، فقد كنت رجلًا فقدَ كل أمل في أي مصطلحات تشبه الشعب والثورة والتغيير والقومية والعروبة وغيرها من مصطلحات متحفية كتبها شعراء في أزمنة غير زماننا.

أدخلني البعلي في التجربة بحماسِه ومعرفتِه واهتمامه بالأمر، كان خلال متابعتنا لكلمات زين العابدين بن علي، يمنحنا- أنا والجالسين- خلفيات تاريخية سريعة عن الموقف؛ ما الذي جرى، وكيف تطورت الأمور، مضفيًا على الأمر مزيدًا من الألق وهو يصف ارتباك الرجل وتلعثمه ويحلل لغة جسده ويفكك خطابه ويتوقع أنها مؤشرات تشي بانهياره.

يومها نطق «بن علي» بكلمته الأشهر في التاريخ العربي المعاصر: «فهمتكم... فهمتكم»، هذه الجملة التي أعادتني – بمساعدة البعلي- إلى مساحة الاهتمام بالوطن والأمل فيه التي أخرجني منها نظام مبارك، قبيل أن أقرر الخروج من مصر إلى بلد يحترم البشر، ومنذ هذه اللحظة بدأت أفهم وأشعر معنى كلمة شعب وإرادة. لكني -في الواقع ورغم ذلك- لم أكن أتوقع أن تنتقل العدوى إلى مصر بهذه السرعة، وإن كنتُ أحدَ مراقبي مراحل انهيار المجتمع والمبشرين بوقوع ما يحدث عادة في نهايات عصور الانحطاط من دون معرفة دقيقة بكنه أو شكل الحدث.

ما الذي يفرق تونس عن مصر؟ هذا ما أردت أن أعرفه من السائق الحكيم الذي راح يلضم جملة من هنا بعبارة من هناك في تعبير شديد البلاغة عن حالة التناقض والبؤس التي يشهدها الشارع المصري. لم ينتظر الرجل سؤالي وراح يكرر على مسامعي ما يبدو أنه جمّعه من هنا وهناك من دون أن ينتبه، قال إن تونس بلد صغير يقل في حجمه عن إسكندرية، وقال إن الحكومة هناك غير الحكومة هنا، حتى الناس هناك غير الناس هنا (!)، لم أنتبه كثيرًا لما راح يعدده من أسباب بعد ذلك لأنني أدركت أنه يردد أشياء لا رابط بينها، مجرد أفكار التقطتها أذناه من زبون، أو أكثر ربما.

ألقيت ببصري إلى الطريق، كنت أفتش عن مشاهد توحي بأن ثمة أحداثًا تشبه ما شهدته تونس قد جرت على هذه الأرض في الوقت الذي قضيته متنقلاً بين أبوظبي والإسكندرية والقاهرة منشغلًا بالاستذكار والتحضير لامتحانات الماجستير. لم ألمح الكثير، اللهم بعض الإطارات المحترقة أسفل كوبري الجلاء، وسلسلة بشرية من جنود الأمن المركزي في أحد الأماكن خلال الطريق، لا أذكر أين بالتحديد.

انتبهتُ على صوت السائق يسألني: «فين في شارع خاتم المرسلين يا أستاذ؟» لمحتْ عيناي في اللحظة نفسها لوحةً تحمل اسم الشارع وتحتها بعبارة تكاد لا تبين «طريق سقارة»، فكّرتُ كم هي بليغة هذه اللوحة في تلخيص ما حدث لمصر وحضارتها.

كانت مقاهي الشارع تغص بالبشر، إلا أن الخلفية الصوتية لم تكن مباراة كرة قدم ولا إحدى أغنيات الست أو نشازات الغناء الشعبي الحديث كالعادة، بل كانت أصوات نشرات أخبار متداخلة وسط صمت بشري غير مألوف. الكل محدق في شاشة التليفزيون في محاولة لتتبع الأخبار، وهو الأمر الذي سوف أجدني منغمسًا فيه بعد دقائق فور أن ألتقي صديقي الذي بدا شديد الحماسة والقلق وهو يستقبلني أمام باب شقته ويجذبني للدخول لنجلس معًا أمام التليفزيون حتى لا تفوته متابعة أخبار اليوم الذي عرفت بعد ذلك أنه كان أكبرَ بكثير من حديث الناس في القطار، ومن هرتلات سائق التاكسي الذي فكرت لحظتها فيه، وتساءلت: إذا كانت أحوال البلد خلال اليوم بهذه الخطورة، فلا شك في أنهم لم يسمحوا بالتحرك بحرية سوى لسائقي التاكسي التابعين لهم؟ فهل كان الرجل الذي نفحته 50 جنيهًا زيادة أحد هؤلاء؟

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية