x

أحمد الجمال تحية لروح حكيم منير صليب أحمد الجمال الثلاثاء 26-01-2016 21:09


عرفت القصة وهى لا تتجاوز سطرين بعد أن رقد فى الأبدية، فازددت إكبارا له واحتراما وتوقيرا فوق ما كان عندى وعند مئات غيرى.

تقول القصة: «إن أنور السادات أراد أن يسند إليه النظر فى القضية التى يحاكم فيها المتهمون فى الانتفاضة الشعبية الكبرى يومى 18 و19 يناير 1977 لأنه حسبما ظن السادات قبطى- يعنى مسيحى- يتمكن منه الخوف من الصدام مع السلطة، ولذلك سيحكم فيها بما يعرف أنه إرادة الحاكم!».. وقد كان السادات مصيبا فى جزئية واحدة من توقعه وهى جزئية أن الرجل مسيحى مصرى، أى قبطى لأننا جميعا أقباط.. أما بقية التوقع فقد خاب خيبة المفترى «وقد خاب من افترى» حسب التقرير الإلهى، إذ عندما وصل التوقع الساداتى بحذافيره للرجل فإنه أقسم بمقدساته وفى مقدماتها ضميره وشرفه أنه لن يحكم إلا بالقانون ولا شىء غير القانون.. ولذلك فما إن صدر الحكم بادر السادات بالاعتراض عليه وإحالته لدائرة أخرى، ثم كان أن لقى حتفه على يد العفريت المتأسلم الذى استحضره ولم يتمكن من صرفه! وظلت القضية تتداول وأجلت إلى أجل غير مسمى لم يحن حتى الآن، رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة!

هو المصرى حتى النخاع المستشار حكيم منير صليب، رئيس محكمة أمن الدولة العليا، وكان على يمينه المستشار على عبدالحكيم عمارة وعلى يساره المستشار أحمد محمد بكار.. وكان الواقفون أمامهم للترافع نخبة من أعلام المحاماة منهم الأستاذ الدكتور عصمت سيف الدولة والأساتذة عادل أمين ومحمد ممتاز نصار وعصام الإسلامبولى وسامح عاشور وعبدالرؤوف على وصلاح عبدالمجيد والدكتور يحيى الجمل ومحمد فهيم أمين وأحمد نبيل الهلالى وعبدالله الزغبى ومحمد أبوالفضل الجيزاوى ومحمد صبرى مبدى وخليل عبدالكريم والدكتور جلال رجب وماهر محمد على والدكتور عبدالحليم مندور، أما من كانوا فى القفص فقد زادوا على مائة وخمسة وسبعين متهما، كان كاتب هذه السطور يحمل رقم 162 وكان أحمد فؤاد نجم يحمل رقم 158.

وقبل أن أسجل فى هذه السطور ما أنقله بنصه من متن الحكم الذى أصدرته المحكمة برئاسة الراحل الكبير الموقر حكيم منير صليب، أود الإشارة إلى أننى كثيرا ما أعود لقراءة بعض أدبيات القضاء المصرى بما فيه النيابة، وعلى رأسها نص قرار نيابة مصر الذى كتبه المستشار محمد بك نور عام 1924 مبرئا فيه ساحة الأستاذ الدكتور العميد طه حسين من التهم التى كالها له أفراد ومؤسسات، واتهموه بالزندقة والكفر إثر نشره كتابه عن الشعر الجاهلى، وكيف أن رئيس النيابة محمد نور ناقش كل ما ورد فى الكتاب وقدم آراء مخالفة للأستاذ العميد حتى إنك تخال أنه ليس رئيسا للنيابة العامة بل رئيس لقسم اللغة العربية والحضارة فى أعرق الجامعات.

أقدم الراحل الكريم حكيم صليب على التصدى بالبحث والدراسة لأحداث يومى 18 و19 يناير قبل أن تناقش المحكمة أدلة الثبوت.. فإلى النص: «ولكن المحكمة وهى تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية فى ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحى الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصرى، فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا فى الأسعار مع ثبات مقدار الدخول، ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجا فهم مرهقون مكدودون فى تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص فى الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن وهو مطلب أساسى تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم فى بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة فى ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التى سوف تنهى أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم، وبينما أولاد هذا الشعب غارقون فى بحار الأمل التى تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التى تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأى انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأى تناقص رهيب فى الآمال وقد بثت فى قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذى أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا، وإذا بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التى وأدت الرجاء وحطمت الآمال، وحاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام، ولكن أنى لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة، فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم فى مأمن ومنجاة وقد التهبت انفعالات هاته الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزى بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان أن اشتعلت الأحداث وسادت الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجوال ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ، وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام. والذى لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومى 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهى متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب».

لقد اقتبست جزءا يسيرا مما نطق به المستشار حكيم صليب، الذى سيبقى حيا طيب الذكر فى وجدان الأمة.. والزبد يذهب جفاء، وكم من زبد طفا على وجه حياتنا السياسية والثقافية ثم سرعان ما تلاشى.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية