x

جمال الجمل ناصر. (نقطة) جمال الجمل الإثنين 25-01-2016 23:14


(1)

عندما يسمع العالم كله اسم «ناصر» دون أي إضافات أخرى، يفهم أن المقصود هو الزعيم المصري «جمال عبدالناصر»، أما أنا فأتصور أن المقصود هو صديقي المخرج والمثقف المصري النادر «ناصر كامل»

(2)

لم أشارك في مظاهرة الثلاثاء 25 يناير، وكنت أظنها مجرد مظاهرة قوية ضد الشرطة والبطش لن تتحول إلى ثورة شاملة، لكن «ناصر» الذي لم يكن يوما ناصرياً ولا سياسياً بالمعنى التقليدي، كان يتحرك بشكل مختلف، فقد صمم أن يشارك في المظاهرات بحماس لم أره في تصرفاته من قبل، وبعد منتصف الليل رن الموبايل: ناصر أصيب أثناء فض الاعتصام بميدان التحرير، وتم اعتقاله.

(3)

في اليوم التالي اتصلت بي أسرته وخطيبته الفنانة التشكيلية الموهوبة، ولم تكن لدى أحد أي معلومة عن مكان احتجاز ناصر، ولا عن حالته الصحية، لكنني كنت أضحك لأخفف التوتر والإنزعاج المسيطر على العائلة، وكنت أقول بيقين: ماتقلقوش.. ناصر هيبات في بيته بكره بإذن الله... هيعملوا إيه بالمثقفين؟.. تلاقيه جننهم مناقشات، ومش بعيد يكون طردوه ووتلاقيه على أي قهوة دلوقتي.!

(4)

تم الإفراج عن ناصر يوم الخميس، بعد التحقيق معه وإثبات إصابته بعشرات الطلقات المطاطية وحبوب الخرطوش في ظهره وأنحاء متفرقة من جسمه، بعضها لايزال داخل لحمه حتى الآن، واتضح أنه كان محتجزاً في أحد معسكرات الأمن المركزي على تخوم القاهرة مع مئات المعتقلين، وفي المساء اتصل بي صديقنا المشترك الصحفي رضا فاروق، ليبلغني أن ناصر مشحون برغبة متهورة في الثورة، ومصمم على الخروج غدا للمشاركة في جمعة الغضب برغم حالته الصحية والنفسية المقلقة، وقال لي بالحرف: أنا بحذرك.. ناصر لو خرج هيموت... ده بيتصرف بشجاعةْ من يريد الانتحار.

(5)

أعرف ناصر منذ سنوات بعيدة، وكنا في أشد الأزمات، نقضى أياما طويلة معاً، نؤجر الكثير من شرائط الفيديو، ونجهز ما تيسر من طعام، ونتحدث قليلاً قليلاً فيما نمر به من أزمات، فقط نشاهد أفلام السينما، ونلعب الشطرنج، ونأكل، ونشرب الشاي، بينما المشاكل تتأمل تصرفاتنا الأريحية، وتموت من الغيظ موتاً بطيئاً، قبل أن تنسحب ذليلة من فرط الملل.!

(6)

هاتفت ناصر ضاحكا: لما صحتك تتحسن وتقدر تخرج، قابلني على «أولاد حارتنا» أغلبك في الشطرنج.

لم يضحك ناصر، ولأول مرة يرفض موعدنا المقدس.. موعد الشطرنج، قال بنبرة هادئة ومخيفة: بعدين.

* إنت هتنزل المظاهرات بكره؟

- آه

قالها هادئة وحاسمة، ولم أناقشه فيها، فقط أردت أن اختتم المكالمة بلا مواعظ فقلت له: طيب نؤجل الشطرنج حتى تنتصر الثورة.. خللي بالك من نفسك، مش هلاقي حد كويس أغلبه.

(7)

مُنع مقالي عن الثورة يوم الجمعة، ولم أشارك فعلياً في مظاهرات الغضب، بل أنني لم أهتف ولا مرة واحدة طيلة الـ18 يوما في الميدان، فقط كنت مراقباً وموثقا بالصوت والصورة والعاطفة، ربما لأنني كما كتبت قبل ذلك بسنوات، كنت قد أصبحت مثل «سام ويت» مجرد «شبح».!

(8)

«سام ويت» (لمن ينعمون بالنسيان) هو بطل فيلم «شبح» الذي قام ببطولته باتريك سويزي وديمي مور، وقنبلة التمثيل السمراء ووبي جولدبرج التي نالت عن دورها جائزة أوسكار، كما نالها أيضا كاتب السيناريو بروس روبين، وقصة الفيلم باختصار تدور حول مقتل سام في أول مشهد للتغطية على جريمة فساد، لكن الشاب الذي قتل وهو بصحبة خطيبته يظل عالقا بين الحياة والموت، يرى ويتحرك ويراقب كل الأحداث، مما أعطاه الفرصة ليحقق بنفسه في جريمة قتله، لكنه لا يمتلك جسدا، ولا قوة مادية تنقل معرفته ووعيه بالحقائق إلى فعل مادي للتغيير، وظل على هذا الوعي العاجز عن الفعل، حتى تعرف بالمصادفة على وسيطة الأرواح «أودا ماي براون» التي قامت بدورها جولدبرج!

(9)

لم يكن ناصر وحده هو «ماي براون»، لكن الميدان كله كان قوة فعل، ربما أكثر منه قوة وعي، ولما ترجلت الثورة عن جوادها، ومضت في دهاليز الحسابات الواقعية، كان ناصر اسماً ضمن كشف طويل من مصابي الثورة الذين يستحقون تعويضات مالية، وتمادى ناصر في التجربة المسرحية بحكم غرامه بالدراما، ارتاد الجلسات والدواوين البيروقراطية، وفي «الطابور» تعرف على نماذج كثيرة من البشر، ذات يوم سأله أحدهم: احنا هنقبض امتى؟ (كان «صنايعيا» فقيراً طرده صاحب الورشة، لأنه غاب عن العمل، بعدما وجد مظاهرة كبيرة في شبرا، فتأثر بالهتافات وانخرط في الحشود المتجهة إلى ميدان التحرير، حيث أُصيب واُعتقل)

قال ناصر لزميله الثوري المصاب: أنا مش هقبض.

* إزاي يعني؟.. أُمال بتيجي ليه؟

- عشان اتفرج وأفهم ما يحدث

* يعني مش هتاخد فلوس؟

- لأ.. لو خدت مش هسامح نفسي.. لأن اللي عملته محدش يقدر يشتريه بأي ثمن، المقابل هو تحقيق ما خرجت علشانه، وأصبت علشانه، واعتقلت علشانه،.

* وأنا زيك يا أستاذ.. مش هبيع الثورة بتمن، أنا عاوز الثورة تنجح وبس

يضحك ناصر فخورا بالشاب الفقير الذي وضع مبادئه فوق حاجته، ويقول لي وهو يواصل الضحك: حظه السئ وقعه في طريقي، ده خلاص التعويض كان بعد ايام، مش عارف عمل كده ليه؟، لكنه أدهشني جدا، وجعل لموقفي العادي معنى أكبر مما فكرت فيه.

(10)

هذا الصنايعي الفقير* الذي رفض أن يكمل مشواره في طابور التعويضات، هو بالنسبة لي من أكبر مكاسب ثورة يناير، لقد أراد أن يكون حبه للوطن منزها من الغرض الشخصي، لصالح الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية للجميع، لذلك لا أصدق أي ضال ممن يتصورون أن الثورة فشلت، فالثورة هي تلك اللحظة الكاشفة التي تمس وعيك الداخلي، وتغيرك أنت قبل أن تغير الواقع من حولك، لذلك لا أهتم كثيراً بالمتزاحمين في الطوابير للحصول على حصتهم، إحنا بره طوابير المصالح الفردية.. احنا مع مصلحة البلاد والعباد... #إحنا_ثورة_يناير

...................................................................................................................................

* المقال ليس من أجل ناصر، لكنه إهداء للصنايعي الفقير، الثوري الشريف

جمال الجمل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية