في فجر يوم 26 يناير 1952، استيقظت القاهرة على مظاهرات غاضبة لرجال البوليس، احتجاجاً على عمليات القتل الوحشى التي راح ضحيتها العشرات في اليوم السابق خلال معركة «غير متكافئة» مع القوات الإنجليزية بمدينة الإسماعيلية.
كانت المدينة الهادئة الواقعة بين مدن القناة الثلاث على موعد مع أبسل عمليات المقاومة، عندما وقف أفراد «الدرك» بأسلحتهم التقليدية أمام دبابات «السنتريون» البريطانية في تحد معلن للإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.
المعركة أثارت أفراد الأمن الذين خرجوا في رد فعل «غاضب» دون إعداد. جابت المظاهرات شوارع العاصمة، ردد المتظاهرون خلالها هتافاً واحداً.. هو «أين السلاح؟».. فجأة- ودون مقدمات- تحولت المظاهرات السلمية إلى فوضى وعمليات حرق وتدمير منظم سجلها ورصدها المؤرخون تحت عنوان «حريق القاهرة».
في الذكرى الـ64 لحريق القاهرة، تنفرد «المصرى اليوم» بالكشف عن مجموعة من الوثائق الفريدة والخطيرة، التي تكشف جانباً من ملابسات الحادث. تشير هذه الوثائق إلى بعض الجهات «المدبرة» و«المنفذة» لعمليات الفوضى والتخريب والسرقة التي تمت خلال هذا اليوم. تعدَّد الأبطال وتوحدت المصالح نحو هدف واحد، وهو إسقاط آخر «حكومات الوفد»، وإقصاؤها عن الحكم، على اعتبار أنها الحكومة الوطنية التي ألغت معاهدة 1936، وصعّدت من عمليات المقاومة ضد الإنجليز في القناة..! هناك شبه إجماع على أن «الملك» و«الإنجليز» هم أصحاب فكرة «التدبير»، بينما تعددت أدوات التنفيذ من «البوليس السياسى» و«جماعة الإخوان المسلمين» و«الاشتراكيين واليساريين»، ووصولاً إلى «الجيش» نفسه الذي كان صاحب مصلحة التخلص من النظام السياسى القائم!
هذه الوثائق- التي تكشف عنها «المصرى اليوم»- تفتح باباً جديداً من الجدل والنقاش حول أهم حدث شهدته مصر في القرن العشرين.. ولكنها- بالطبع- لن تُنهى هذا الجدل.
جدل كبير أثير حول مشاركة الجيش في عمليات الحريق يوم 26 يناير، ولكن هناك شبه إجماع على أنها شائعات أطلقتها جماعة الإخوان المسلمين، على اعتبار أن الجيش كان يستهدف النزول إلى الشارع لتنفيذ مخطط الثورة!
شائعات الإخوان كانت وراءها حقائق مسلم بها، وهى أن «كتائب التحرير» للمقاومة في القناة والتى شكلتها القوى الليبرالية، وتولى الفريق عزيز المصرى تدريبها كانت تضم عدداً من ضباط الجيش المعروفين بالاسم، إضافة إلى مجموعة أخرى، كانت تعمل بدافع وطنى، ومنهم من كان عضواً بتنظيم الضباط الأحرار.
«كتائب التحرير» التي أجمع الشعب المصرى عليها، رفضت جماعة الإخوان أن تشارك فيها، ولكن من هم أعضاء قيادة «كتائب التحرير». الإجابة يقدمها الدكتور فطين فريد في دراسته «إلغاء المعاهدة.. والكفاح المسلح» قائلاً: كان مجلس قيادة الكتائب برئاسة عزيز المصرى ويتكون من: وجيه أباظة، وحسن عزت، قائد الأسراب، وعبدالحميد صادق، وعطية صابر محمد، وعبدالرحمن أباظة المحامين، وتوفيق الملط، المدرس، وجمال عزام، العمدة، ومدحت عاصم، الموسيقى، وأحمد أبوالفتح، الصحفى الوفدى، وإحسان عبدالقدوس، الصحفى، وأصدرت الكتائب بياناً جمعت على أساسه تبرعات بلغت نحو 32 ألف جنيه في أيام قليلة.
بينما أعمدة الدخان تتصاعد من العمارات والمحال التجارية ودور الملاهى يوم 26 يناير، كانت هناك سيارة جيب تابعة للجيش تجوب وسط القاهرة حاملة الكيروسين المستخدم في عمليات الحرق!
السيارة حملت لوحتها المعدنية رقم «9096»، وكانت مخصصة لتحركات اليوزباشى «النقيب» فؤاد عبدالقادر حمزة الضابط بسلاح الإشارة.
بعد أيام قليلة من الحريق، وفى أوائل فبراير 1952 بدأت النيابة العامة تحقيقاتها في الحادث، وفى يوم 9 فبراير خصصت جلسة التحقيق لقضية سيارة الجيش رقم «9096».
«المصرى اليوم» تكشف عن وثيقة جديدة- تنشر لأول مرة- من ملفات البوليس السياسى، حول سير التحقيقات تكشف سر هذه السيارة التي أدخلت الجيش طرفاً في عمليات الحرق والتدمير.
تكشف الوثيقة عن سؤال الصاغ «الرائد» فريد عبدالشافى من قوة مباحث مصر فقرر أنه رآها تحمل بعض المتظاهرين، وهم يهتفون بهتافات جماعة مصر الفتاة «الاشتراكيون التابعون لأحمد حسن» في الساعة السادسة مساءً بميدان سليمان باشا، وكان بين المتظاهرين ثلاثة يلبسون ملابس كتائب الحزب الاشتراكى.
وعندما سُـئل اليوزباشى «النقيب» فؤاد عبدالقادر حمزة، الضابط في سلاح الإشارة، والمخصصة له هذه السيارة، قال إنه كان في هذا اليوم مدعواً للغداء بقصر عابدين وتوجه إلى القصر مع رئيسه، وأنه كلف سائق هذه السيارة باللحاق به وانتظاره بالقرب من سراى عابدين ليعود معه إلى منزله، وعقب المأدبة لم يتمكن لكثرة السيارات الموجودة من التعرف على مكان سيارته، فأوصله زميل له بسيارته الخاصة إلى منزله.
وفى الساعة السابعة مساءً علم تليفونياً من رئيسه قائد مركز التدريب بخبر مشاهدة سيارته وهى تحمل الكيروسين حيث وصل إليه بلاغ بهذا المعنى من أحد الضباط.. وأعد عن هذا الموضوع تقريراً رفع لإدارة الجيش.
وعند سؤال سائق السيارة وكيل الأومباشى السيد حسن حسب النبى قال: إن سيارات المدعوين للقصر انصرفت جميعها، وأنه رأى أن ينصرف إلى القشلاق، وفى الطريق بالقرب من ميدان إبراهيم باشا «الأوبرا» اضطر للوقوف عندما حاصرته جمهرة كبيرة من الأهالى وطلبوا منه نقل المصابين للإسعاف وأوصل بعضهم فعلاً إلى دار الإسعاف وأراد الانصراف بحجة عدم وجود بنزين فلم يمكنوه، واستولوا على 11 جالوناً من البنزين من إحدى محطات شل، ولا يعرف أحداً لكثرة من ركب السيارة ومن نزل منها.. وأنه عاد قبل الساعة 7 مساءً للقشلاق بعد أن أخلى المتظاهرون سبيله.
وبسؤال الملازم أول فؤاد بسطوروس من سلاح الإشارة قال إنه شاهد هذه السيارة في ميدان الإسماعيلية على النحو الذي شوهدت به، وأن السائق نزل منها واستنجد به، فلم يستطيع نجدته، وثار جمع الراكبين فيها والملتفين حولها من الأهالى «ضده وضد الجيش»، فأمر السائق بالعودة إلى السيارة وطلب من المتظاهرين عدم الإضرار بها.
رغم بساطة سرد هذه الواقعة، إلا أنها تحمل مضامين خطيرة، فأى إنسان عادى- أمامه سيارة تابعة للجيش وهى تنقل الكيروسين والبنزين من محطات الوقود إلى مواقع إشعال النيران، يعطى المبرر الفعلى للدفع- على غير الحقيقة- بأن الجيش شارك في حريق القاهرة.
«إمام بك» المدير الغامض لـ«البوليس السياسى»
فى عام 1961 كتب السيناريست يوسف عيسى النص السينمائى، لواحد من أهم أفلام السينما العربية «فى بيتنا رجل» للمخرج المبدع هنرى بركات، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس. المزيد على الرابط.
«المراغى» وزير «البحث عن الحقيقة»
هذا الرجل هو أول من تصدى لـ«لغز حريق القاهرة »، فهو أول وزير مسؤول قرر - بحكم منصبه الجديد كوزير للداخلية - أن يحقق فى هذا الحدث الكبير والمتشعب. اقرأ المزيد على الرابط