في فجر يوم 26 يناير 1952، استيقظت القاهرة على مظاهرات غاضبة لرجال البوليس، احتجاجاً على عمليات القتل الوحشى التي راح ضحيتها العشرات في اليوم السابق خلال معركة «غير متكافئة» مع القوات الإنجليزية بمدينة الإسماعيلية.
كانت المدينة الهادئة الواقعة بين مدن القناة الثلاث على موعد مع أبسل عمليات المقاومة، عندما وقف أفراد «الدرك» بأسلحتهم التقليدية أمام دبابات «السنتريون» البريطانية في تحد معلن للإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.
المعركة أثارت أفراد الأمن الذين حرجوا في رد فعل «غاضب» دون إعداد. جابت المظاهرات شوارع العاصمة، ردد المتظاهرون خلالها هتافاً واحداً.. هو «أين السلاح؟».. فجأة- ودون مقدمات- تحولت المظاهرات السلمية إلى فوضى وعمليات حرق وتدمير منظم سجلها ورصدها المؤرخون تحت عنوان «حريق القاهرة».
في الذكرى الـ64 لحريق القاهرة، تنفرد «المصرى اليوم» بالكشف عن مجموعة من الوثائق الفريدة والخطيرة، التي تكشف جانباً من ملابسات الحادث. تشير هذه الوثائق إلى بعض الجهات «المدبرة» و«المنفذة» لعمليات الفوضى والتخريب والسرقة التي تمت خلال هذا اليوم. تعدَّد الأبطال وتوحدت المصالح نحو هدف واحد، وهو إسقاط آخر «حكومات الوفد»، وإقصاؤها عن الحكم، على اعتبار أنها الحكومة الوطنية التي ألغت معاهدة 1936، وصعّدت من عمليات المقاومة ضد الإنجليز في القناة..! هناك شبه إجماع على أن «الملك» و«الإنجليز» هم أصحاب فكرة «التدبير»، بينما تعددت أدوات التنفيذ من «البوليس السياسى» و«جماعة الإخوان المسلمين» و«الاشتراكيين واليساريين»، ووصولاً إلى «الجيش» نفسه الذي كان صاحب مصلحة التخلص من النظام السياسى القائم!
هذه الوثائق- التي تكشف عنها «المصرى اليوم»- تفتح باباً جديداً من الجدل والنقاش حول أهم حدث شهدته مصر في القرن العشرين.. ولكنها- بالطبع- لن تُنهى هذا الجدل.
استيقظ سكان القاهرة في التاسعة من صباح يوم السبت 26 يناير عام 1952، على حركة غير عادية في الشارع، مظاهرة ضخمة لعساكر بلوكات النظام وهم يهتفون «نريد السلاح.. نريد السلاح.. أين السلاح يا نحاس».. ومضت المظاهرة تجوب الشوارع والميادين، تتضاعف وتزداد كثافتها من وقت إلى آخر، بعدما التحمت الجماهير الغاضبة معها منددة بوحشية الاستعمار.
كان من الطبيعى أن يكون يوم «السبت الأسود»- كما وصفته الصحافة المصرية- يوماً غير عادى، فقد بات المصريون ليلة حزينة على مقتل عشرات من جنود الأمن الذين رفضوا الاستسلام وقاوموا حتى آخر طلقة في الإسماعيلية.
تحركت المظاهرات الغاضبة وأفراد بلوكات النظام «الأمن المركزى الآن» في عدة مواقع بالعاصمة، والتحم معها طلاب الجامعة في الجيزة، لتتحرك إلى مبنى مجلس الوزراء.. وأمام مجلس الوزراء تصاعدت الهتافات لتطال رئيس الحكومة، مصطفى النحاس «باشا»، منددة بما حدث في الإسماعيلية، فخرج عبدالفتاح حسن، وزير الشؤون الاجتماعية، إلى المتظاهرين وحاول تهدئتهم، فقاطعوه في البداية، ثم استمعوا له عندما أكد «أن الحكومة ستقطع علاقاتها مع بريطانيا نهائياً.. وستبدأ في التعاون مع الاتحاد السوفيتى..!».
كان الرد جزءاً من الوصول إلى ذروة الصراع مع «الأسد البريطانى» العجوز، الذي شاخ ولجأ إلى الأمريكان حليفه التقليدى، الذي يسعى هو الآخر لحجز «مقعد بديل» في مصر والشرق الأوسط!
خلال ساعات «اليوم الأسود» خسرت مصر 26 قتيلاً وأصيب نحو 552 شخصاً، وبلغت الخسائر المادية ما بين 40 و70 مليون جنيه بعد أن تحولت المظاهرات السلمية إلى فوضى وتخريب.
التاريخ يعيد نفسه.. أحياناً
في بدايات فبراير عام 1952، وبعد أيام قليلة من الحريق، حصل البكباشى «المقدم» يحيى حسن من «البوليس السياسى» على مشروع تقرير يعتزم الكاتب الفرنسى «جيان ميرلى» كتابته إلى صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، حول مشاهداته كشاهد عيان لأحداث يوم 26 يناير.
الوثيقة التي تكشف عنها «المصرى اليوم» لأول مرة، تمثل شهادة لكاتب فرنسى كان بين الأحداث متابعاً وراصداً لتفاصيل دقيقة حول ملابسات الحريق.
قبل أن نتطرق إلى تفاصيل الوثيقة يجب أن أتوقف أمام حقيقة وهى أننى لست من المؤمنين إيماناً مطلقاً بمقولة إن «التاريخ يعيد نفسه»، ولكنى أرى أنها مقولة يتحقق منها الجزء الكبير على أرض الواقع.
كثيراً ما قرأتُ عن «حريق القاهرة عام 1952» وشاهدت مئات الصور وعدداً من الأفلام الوثائقية والروائية التي تناولته، ولكنى لا أبالغ إذا قلت إنى شاهدت هذا الحريق بالعين المجردة!
نعم.. شاهدتُ وتابعتُ أحداث حريق القاهرة الذي وقع في 26 يناير عام 1952، يوم 28 يناير عام 2011 الذي عُرف إعلامياً خلال ثورة يناير باسم «جمعة الغضب».
كان كل شىء معداً بشكل جيد مسبقاً..
الأبطال تقريباً.. هم نفس الأبطال.. الإخوان المسلمون كجماعة سياسية تستغل الدين في إلهاب شعور الناس، الجيش كهيئة نظامية تسعى للخلاص من الوضع السياسى القائم.. المخطط الخارجى الأنجلو أمريكى.. والوفد كعنصر يمثل الوطنية المصرية.. والشباب الاشتراكيون.
ولا أبالغ إذا قلت إن الشرطة المصرية نفسها لعبت نفس الدور الذي لعبه البوليس المصرى في حريق القاهرة، فقد كان «الانسحاب» هو الحل الأسلم أمام هذه الموجات من الحرائق والفوضى..!
والمثير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن المصطلحات التي استخدمت بعد 28 يناير 2011، هي تقريباً نفس المصطلحات التي تم استخدامها فيما قبل وبعد يناير 1952، فكلمة «فلول» التي طاردت بقايا الحزب الوطنى الديمقراطى بعد ثورة يناير، هي نفس الوصف الذي أطلقه قادة «الطليعة الوفدية» على أحزاب الأقلية المجابهة للوفد.. كذلك ألفاظ أخرى مثل «الفوضى» و«الانفلات الأمنى» وجدت لها نصيباً في يناير 1952.
ورغم كل هذا التشابه إلا أننى أؤكد- مجدداً- أننى لست مؤمناً إيماناً مطلقاً بأن «التاريخ يعيد نفسه»، ولكنى أعتقد أن هناك أحداثاً تتشابه إلى حد التطابق.
وإذا تطرقنا إلى موقف الإخوان المسلمين في كلا الحادثين، فحدّث ولا حرج، فموقفهم يتشابه إلى حد كبير بين يناير 1952 ويناير 2011، وهو ما كشفته تقارير البوليس السياسى عندما أشارت إلى الدور الذي قام به الشيخ محمد فرغلى، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، يوم السبت 26 يناير عام 1952، «عندما شوهد ومعهم عناصر من الجماعة، وهم يحرضون المتظاهرين الغاضبين على أعمال الفوضى وإحراق المنشآت التجارية والملاهى»، وهو نفس السيناريو الذي تكرر في جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011.
أما عن عمليات الحرق ذاتها فقد تمت في كلا الحادثين من توقيتات واحدة، وإذا كانت التجربة في يناير 1952، كانت مقصورة على القاهرة فقط، إلا أن عمليات الحرق في 28 يناير 2011، كانت في توقيتات واحدة ومناطق جغرافية مختلفة من بورسعيد إلى الإسكندرية.. إلى محافظات الدلتا بالكامل.. إنها «الثورة» الإخوانية.
في الحالتين كانت الإدارة الأمريكية شريكاً في الحادثين بشكل أو بآخر، ففى «حريق القاهرة»، كانت المخابرات الأمريكية شريكاً أصيلاً للمخابرات البريطانية في الإعداد لهذا المخطط، فأمريكا لم تكن راضية عن سياسة حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا، وشاركت في كل العمليات التي مورست على الحكومة «شهادة إبراهيم فرج وزير الشؤون البلدية والقروية بحكومة الوفد عام 1952 في حديثه لجمال الشرقاوى».
شهادة القيادى الوفدى إبراهيم فرج كانت الشهادة الوحيدة- تقريباً- التي خرجت عن الصندوق، فهو المسؤول الوحيد الذي وجه اتهاماً مباشراً للولايات المتحدة، وهى شهادة تستحق التفكير والدراسة، خاصة أن أسانيدها قوية..!
خطة دقيقة.. وسهلة التنفيذ
نعود مرة أخرى إلى الوثيقة المهمة التي تكشف عنها «المصرى اليوم».. يقول البكباشى يحيى حسن، من القسم المخصوص بإدارة عموم الأمن العام بالعاصمة، إن الصحفى الفرنسى «جان سيرلى» أشار في بداية شهادته حول الحادث إلى أن المتسببين في إشعال الحرائق- وعددها مائتا حريق تقريباً- «المدبرين» وضعوا خطتهم بـ«دقة ونفذوها بكل سهولة».. ومما سهل لهم مأموريتهم هو اشتراك البوليس فيها.. وتأخر تدخل الجيش..!
يقول «ميرلى»: في صباح يوم 26 يناير قامت مظاهرات إثر اعتداءات الإنجليز على رجال بلوك النظام بمدينة الإسماعيلية، وطلب المتظاهرون إرسال حملة تأديبية للقنال، وقد حمل المتظاهرون ضباط الجيش وهتفوا لرجال البلوكات الذين أظهروا رغبتهم في الانتقام لإخوانهم. ومن المسلّم به أن هناك الكثير من المواطنين ممن لاموا وزير الداخلية، فؤاد سراج الدين، لتسببه في اغتيال عدد 40 من بوليس القنال بإصداره الأمر لهم بمقاومة البريطانيين رغم تفوقهم في العدد، وكان هناك شعور بإرغام الحكومة على اتخاذ إجراء حاسم ضد البريطانيين، ومع حلول الظهر تبدّل الجو فاعتدى بعض المتظاهرين على كازينو بديعة وأشعلوا النيران فيه، بغية الانتقام من المتمتعين والباشوات والإقطاعيين الذين كانوا يلهون بينما تسيل دماء الأبطال في مدينة الإسماعيلية.
هجوم «فنى» على الملاهى
وبعد نصف ساعة، توجه المتظاهرون وغيرهم إلى شارع فؤاد الأول قاصدين سينما ريفولى وعندئذ اختفى البوليس ورأيت ثلاثين شاباً يهجمون على دار السينما وكنت أشاهد كيف أشعلوا النيران في السينما بصفة فنية واستمر إشعال الحرائق حتى المساء في أكثر من مائة وخمسين محلاً مختلفاً.
وقد أمكننى أن أشاهد الحرية التي أُعطيت لهؤلاء في إنزال القصاص، ليس فقط بإنجلترا بل بالأجانب وأصدقائهم المصريين، وليس من السهولة. إشعال النيران في مبانٍ كبيرة ولكن استُعملت صفائح من المواد القابلة للالتهاب وخِرَق مشتعلة، بينما استعمل البعض مضخات لرش البنزين على المبانى.
وفى بضع دقائق تبخرت ثروات المدينة، وتحولت إلى دخان أسود.
أما رجال البوليس- والكلام لجان ميرلى- فإنهم كانوا يبتعدون، وكان بعضهم يستعمل سلاحه القديم.. ولكن لفتح الأبواب، وفى فندق شبرد كانت «سوزى سوليدور» راقدة في فراشها، ولكنها نهضت على صوت المتظاهرين، وفتحت النافذة، فوجدت «شلة» من الشبان وخلفهم جنود البوليس يضحكون ويهتفون، فتبادر إلى ذهنها أنها فرقة كرة قدم لأنها كانت تجهل اللغة العربية ومعنى الهتاف الذي كانوا يهتفونه «حرب وثورة».
وبعد مضى نصف ساعة ذهبت إلى المدينة لمقابلة مديرها الفنى وهنا دخل الفندق مشعلو النيران، وقبل إخراج النزلاء أشعلوا النيران في السجاجيد والصالونات، وكانت الحالة مريعة، ففى داخل الفندق كانت تشتعل النيران وفى الشوارع التي تحيط به كان يقف الغوغاء مهددين، وقد جنت السيدة وقفز بعض الأشخاص من النوافذ وأصيبوا بجروح بالغة بينما فقد البعض الآخر حياتهم حرقاً أو اختناقاً، وهنا، كما في حالة الحوادث الأخرى التي وقعت في المدينة، قامت بعض العصابات المجرمة بقطع خراطيم المياه ومنعت فرقة المطافئ من القيام بعملها، وفى حادث فندق شبرد وباقى الحوادث امتنعت القوات عن التدخل أو ساعدت المتظاهرين.
نوبة جنون
ويكمل الصحفى الفرنسى قائلاً: وقد تهدم فندق شبرد وتراكمت الأنقاض على جثث وأموال النزلاء فزال بذلك أثر تاريخى، وفيما بين الساعة الثانية بعد الظهر والساعة الثامنة مساءً كان يخيل أن العاصمة ستزول كلية في يوم واحد لولا أن الريح لم يساعد على انتشار النيران وقد شاعت شائعات كثيرة ولكن هذه الشائعات كانت دون الحقيقة، فقد شوهد بعض الرجال يلقى بهم في النيران في بنك باركليز Barclays ممن لم يتمكنوا من مغادرة مبانى البنك وعددهم خمسة عشر، كما شوهد البعض يجهزون على بريطانى ألقى بنفسه من نافذة نادى تورف كلوب Turf Club ليهرب من مصير ثمانية آخرين من مواطنيه، وشوهد أشخاص في الشرفات وعلى كورنيش المبانى والنار تشتعل فيهم يهوون إلى الأرض، ومما يؤسف له أن شوهد أشخاص يدل مظهرهم على الاستقامة ينضمون إلى المشبوهين لتنفيذ الأوامر التي كان يلقيها قائد المظاهرة من داخل سيارة أو سيارة نقل صغيرة وذلك لتحديد الأماكن المحكوم عليها بالزوال من واقع كشف معد لذلك.
جحيم الليل
ويستطرد «ميرلى» قائلاً: في الساعة السادسة كان يمكن تحديد المؤسسات التي أصابتها أضرار «وهنا ذكر أسماء المؤسسات ودور السينما التي اشتعلت فيها النيران»، وبينها الغرفة التجارية الفرنسية والقنصلية السويدية ومخازن وكلاء السيارات التي أخرجت من المخازن وأشعلت فيها النيران ومخازن الأسلحة والجبة خانة، وفى المساء توجه سفير الولايات المتحدة إلى السراى الملكية لإبلاغ جلالة الملك بأن القوات البريطانية بالقنال ستصل إلى القاهرة بعد ساعة لحماية الرعايا البريطانيين وغيرهم من الأجانب ما لم يتدخل الجيش المصرى ويحفظ النظام. هذا ما قيل ولكن الحقيقة هي أن جلالة الملك هو الذي استدعى السفير الأمريكى لأنه أدرك حرج مركزه لو لم يتدخل الجيش المصرى!
والأسباب الحقيقية لهذه الحركة هي الرغبة في طرد الإنجليز من منطقة القنال وبغض الأجانب بصفة عامة باعتبارهم شركاء الإنجليز ومناهضة الروح الغربية، وأخيراً ثورة الفقر على الرفاهية، وبالاختصار «حروب وثورة».
ويقال إن رؤساء الحركة السريين كانوا يتجمعون في منزل بالقرب من النيل ولكنهم هربوا منه قبل المساء ولم يكتشف أمرهم منذ ذلك الوقت، والتهم موجهة إلى:
1- الإخوان المسلمون.
2- الاشتراكيون التابعون لأحمد حسين.
3- الشيوعيون.
ويظهر أن الوزراء الجدد- يقصد وزارة على ماهر التي جاءت للحكم بعد الوفد- مترددون فيما يختص بالفئتين الأولى والثانية لأن الإخوان المسلمين قد عضدوا الوزارة المكلفة باتخاذ ما يلزم من إجراءات ضد حركة يوم 26، لقد شردوا في ديسمبر سنة 1948 على إثر ما ارتكبوه من حوادث، وتم التصريح لهم بمزاولة نشاطهم أخيراً، فهم يحاولون تنظيم حالتهم دون إرهاب، ومرشدهم العام لا يرى أن أقلية سنة 1948 التي كانت متفقة مع الشيوعيين سوف تقوم ضده، وقد صرح بأن «الإسلام ليس في حاجة إلى الشيوعية ولا إلى الديكتاتورية أو الديمقراطية لأن مبادئه تفوق هذه المبادئ بأجمعها وهى تحل المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية على أسس عادلة وروح تقدمية».
ومن المسلم به أنه يوجد بين الإخوان بعض الشبان المتهورين الذين يسيرون خلف ميول «جريدة الدعوة» (لسان حال الجماعة).. ولكن رسالتهم لم تؤثر للآن على رسالة المرشد الأعظم المعتدلة، وعلى أي حال فإن الجميع متفقون على ما يقضى به الدين والأخلاق والوطنية وهو ألا يخضع الإسلام لأى نفوذ أجنبى.
الاشتراكيون والشيوعيون
أما الاشتراكيون فإنهم يدعون إلى إلغاء الامتيازات الداخلية وتوزيع الأراضى، وكان بعضهم منضماً إلى الشعبة الاشتراكية من الإخوان المسلمين «وهنا ذكر تاريخ أحمد حسين رئيس الحزب وقال إن الأوساط الرسمية ليست مقتنعة بأنه مسؤول مسؤولية مباشرة».
وفيما يختص بالشيوعيين فإنه ليس هناك حزب أو رئيس أو جريدة، ومن المؤكد أن للشيوعيين خلية سرية غير منظمة تقودها الأفكار الماركسية.
الجيش يتدخل
وفى الساعة التاسعة مساءً- والشهادة مازالت لميرلى- يقال إن الجيش تدخل منذ ساعتين وإنه أطلق عدة أعيرة في الهواء، وبدأ المتظاهرون في استعمال المسدسات هاتفين «نريد السلاح يا نحاس»، لقد كانوا يقولون إنهم يريدون السلاح ليقاتلوا الإنجليز، ولكن الحقيقة أنهم لم يحاولوا الهجوم على سفارة بريطانيا.
وعلاوة على ذلك فإن دار رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا كائنة بالقرب من فندق سميراميس، وعليه فإن المنطقة جميعها قد صارت حمايتها كما صارت حماية السراى الملكلية والوزارات، وفى تمام الساعة التاسعة بدأ الجيش يتحرك بسياراته وموتوسيكلاته وأسلحته وبدأت حركة الاعتقالات في المنازل، وفيما يختص بالجيش يقال إن هناك عوامل سياسية وأشياء أخرى سنتكلم عنها.
لماذا انتظر الجيش؟
ويطرح جان ميرلى سؤالاً جوهرياً خلال الوثيقة التي تكشف عنها «المصرى اليوم» وهو لماذا انتظر الجيش قبل أن يتدخل قائلاً: إن شعب القاهرة قد شاهد الفاجعة ببعض السرور، وحاول بعضهم النهب ولكنه حيل دون ذلك، إذ كانت تلقى الأشياء المسروقة في النيران. إن المستببين في إشعال النيران كانوا يخدمون قضية مناهضة ليس فقط للإنجليز بل للأجانب بصفة عامة، إنهم كانوا جماعات صغيرة ولم يُشاهدوا محاولين الاستيلاء على زمام السلطة، وهناك سر آخر- وهو كيف حصل أن الجيش قد انتظر يوماً كاملاً قبل أن يحل محل البوليس النظامى منعدم الوجود؟- والرد على ذلك أن في بداية اليوم كان الجيش يحبذ هذه الحركة الشعبية التي كانت ترمى إلى جعل الحكومة تتدخل عسكرياً ضد الإنجليز في القنال، وكان سراج الدين باشا يرغب في أن تنجح هذه الحركة ويعارض في الاستعانة بالجيش، ويجوز أيضاً أن الحكومة قد خشيت إراقة الدماء.
ما بعد «رحيل الوفد»
وينهى جان ميرلى شهادته بطرح سؤال: ماذا بعد رحيل «حكومة الوفد» فيقول: هل انتهى الأمر؟.. إن الدوريات تسهر الآن على المدينة المنكوبة، حيث يهتف آلاف الأشخاص «حسن جداً.. حسن جداً» والحكومة الجديدة برئاسة على ماهر باشا تكذب ما يشاع وترغب في التجديد عن طريق تشكيل جبهة سياسية وإيجاد عمل للعمال والمستخدمين الذين فقدوا وظائفهم ومساعدة المنكوبين وتعويض أصحاب المحال ومحاكمة المسؤولين واتباع سياسة ترفع من شأن البؤساء وتحقق العدالة الاجتماعية وتخفف من روح الثورة.
التوقيع:
بكباشى يحيى حسن
القسم المخصوص بإدارة عموم الأمن العام
تعليق
إلى هنا انتهت شهادة الصحفى الفرنسى جان ميرلى، والتى تكشف عنها «المصرى اليوم» لأول مرة بعد 64 عاماً من «حريق القاهرة»..
شهادة الصحفى الفرنسى فريدة من نوعها وتستحق الدراسة بعناية، خاصة أنها تكشف عن عدة محاور في «التدبير» و«التنفيذ» ولنا أن نتوقف أمام بعضها..
■ قال الصحفى الفرنسى في بداية شهادته عن يوم «السبت الأسود» إن من أشعلوا الحرائق وضعوا خطتهم بكل «دقة» ونفذوها بسهولة، وهو ما يعنى أن الخطة كانت معدة مسبقاً، وأن الاستعمار البريطانى- صاحب المصلحة الرئيسية في الحريق- كان قد أعد ذلك في إطار خطة إعادة احتلال القاهرة، بعد أن بقيت قواته في مدن القناة فقط عقب الجلاء الأول، معرضة لنزيف الهجمات التي كان يشنها الفدائيون ضدها.
■ حديث الوثيقة عن «الهجوم على الملاهى»، خاصة كازينو بديعة الواقع بميدان إبراهيم باشا «الأوبرا»، انتقاماً من «الباشاوات» و«الإقطاعيين» يشير بشكل أو بآخر إلى دور الاشتراكيين، بزعامة أحمد حسين، في التحريض ضد الرأسماليين وتيارهم، متمثلاً في فؤاد سراج الدين «باشا» الذي أعطى الأمر بالمقاومة في الإسماعيلية قبل ساعات من الحادث «بينما تسيل دماء الأبطال في الإسماعيلية» حسبما ورد بالوثيقة نصاً، كما أنه يشير- أيضاً- إلى دور الإخوان المسلمين في عمليات الحرق والتدمير بنفس الموقع «ميدان الأوبرا»، وهو ما أكده وزير الداخلية أحمد مرتضى المراغى «باشا» في مذكراته حول دور القيادى الإخوانى الشيخ محمد فرغلى في تحريض الجماهير الغاضبة على حرق الملاهى والكازينوهات..!
■ حددت الوثيقة- على لسان الصحفى الفرنسى- أن المتهمين الرئيسيين في الحادث هم «الإخوان المسلمون، والاشتراكيون التابعون لأحمد حسين، والشيوعيون» وأن عدداً من القيادات «السرية» كانوا يجتمعون في منزل بالقرب من النيل، وأن الإخوان قد عضدوا وزارة على ماهر «التى خلفت الوفد» في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد حركة «26 يناير» فيما، أشارت إلى وجود «شبان متهورين» بجماعة الإخوان، أما الاشتراكيون فبعضهم منضم بالفعل إلى «الشعبة الاشتراكية» في جماعة الإخوان.. وهو ما أشار إليه الدكتور محمود عساف، مؤسس جهاز معلومات الإخوان، في مذكراته «مع الإمام الشهيد»، حول وجود اتفاق قديم في الأفكار بين الإخوان وجماعة «مصر الفتاة» التي يتزعمها أحمد حسين!
■ تصاعد الاتجاه «الرسمى والشعبى» نحو السوفييت في الشهور الأخيرة من عمر حكومة الوفد، هو ما أشارت إليه الوثيقة في الحديث عن «الهتاف للأسطول السوفييتى بميناء بورسعيد» في مطلع عام 1952، الذي يبرز التناغم الشعبى مع الحكومة التي سعت إلى «حليف سوفييتى بديل للإنجليز»، وهو ما أفصح عنه وزير الشؤون الاجتماعية عبدالفتاح حسن للمتظاهرين صباح يوم الحريق.
■ السؤال الجوهرى الذي طرحته الوثيقة حول تأخر «نزول الجيش» إلى الشوارع للسيطرة على الحرائق يفتح باباً جديداً من الجدل، خاصة عندما أكد الصحفى الفرنسى أن الفريق محمد حيدر باشا، وزير الحربية، «مخلص تماماً لمليكه» وهو كان راغباً في أن «ترتبك الحكومة» فيزول حزب الوفد، وهى «رغبة الملك الحقيقية» التي بسببها تم تنظيم المأدبة الملكية بقصر عابدين في نفس يوم الحريق وبعد يوم من «معركة الإسماعيلية» للاحتفال بميلاد ولى العهد الأمير أحمد فؤاد الثانى، والذى دعى إليه قادة الجيش والبوليس معاً.. بينما تحترق القاهرة.
■ من دلائل تورط الإنجليز في الحادث حديث الوثيقة عن توجه السفير الأمريكى إلى قصر عابدين لإخطار الملك بأن القوات البريطانية ستصل إلى القاهرة في خلال ساعة لحماية الرعايا ما لم يتدخل الجيش المصرى!.. على الجانب الآخر كانت هناك رغبة لدى عدد كبير من ضباط الجيش في النزول إلى الشوارع للخلاص من النظام القائم عموماً.. وهو ما أشارت إليه الوثيقة.. «حمل المتظاهرون ضباط الجيش على أعناقهم»!