الحياة ذات النوعية الرديئة تحط من مدارك الناس وتجعل تذوقهم للجمال مستحيلاً. وكلما طال بالناس أمد الحياة الرديئة ازدادت الحواجز بينهم وبين الراقى من الفنون والآداب، وتناءت المسافات بينهم وبين استقبال الإبداع من أصحاب المواهب النادرة فى الفن والأدب، ذلك أن إدمان القبح واعتياده يجعل الإحساس والفهم والتفاعل مع الفنون الراقية والأدب الإنسانى والقدرة الاستثنائية شيئاً بالغ الصعوبة، كما يجعل المبدع الحقيقى شخصاً غير مطلوب ولا مرغوب ولا محبوب.
كنت فى زيارة صديق عائد من الخارج بعد سنوات طويلة، وقد طاب لصديقى أن يقدم لى بمنتهى الفخر ولده ذا السنوات العشر الذى يعزف على الكمان بعبقرية نادرة. قدم الطفل الصغير عزفاً ساحراً لمقطوعات ليست سهلة مما جعل أكفنا تلتهب بالتصفيق من النشوة والسعادة ونحن نستمع للكلاسيكيات الغربية الراقية إضافة إلى موسيقى أغنيات عبدالوهاب وأم كلثوم. وأخبرنا الصديق بأن ابنه قد وصل إلى هذا المستوى على يد مجموعة من الأساتذة كانوا يتعهدونه بالرعاية والتعليم، وأنه قد شرع بعد عودته للوطن فى اختيار أعظم الأساتذة ليستكمل معهم الولد رحلته مع الموسيقى.
فى الحقيقة، إن استمتاعى بالعزف الجميل وفرحتى بالطفل الصغير لم يمنعانى من التفكير فيما سيحدث لهذا الولد فى المستقبل، وما سيحدث لأبيه الذى وفر له كل شىء حتى أصبح قطعة فنية تمشى على الأرض.. كيف ستكون حياتهما بعد أن يكبر الابن ويجد أن أفضل ما تؤهله موهبته للحصول عليه هو أن يكون عضواً فى الفرقة التى تعزف خلف سعد الصغير أو تامر أو هيثم وكريم ووائل ولؤى؟!. وما قيمة كل الجهد والتدريب والكفاح فى رحلة الفن إذا كانت النتيجة فى الآخر ستكون بهذه التعاسة؟ وكيف تكون الحياة بهذا الظلم حين تقدم لمطرب بائس عازفين مبدعين يقفون خلفه ويعزفون أغنياته وذلك فى تعبير صارخ عن غياب العدالة.
الأمر نفسه يمكن لمسه فى حالة الأب الذى يصطحب صغيره إلى النادى ويلحقه بالتدريب على رياضة كالسباحة أو الجمباز أو القفز بالزانة وهى رياضات تحتاج إلى تدريب طويل ومتواصل ومكلف أيضاً، وحينما يبلغ لاعبها درجة كبيرة من الإتقان فإنه يقدم إعجازاً بشرياً دالاً على عظمة الخالق من خلال مخلوقاته. وقتها أيضاً تعلق بحلقى ذات المرارة عندما أتصور مصير فتى المستقبل الذى قد يصير بطلاً أوليمبياً يحصل لوطنه على ميداليات وأتخيل إحساسه عندما يرى الإعلام والجماهير الغفيرة والفلوس بلا حساب تركع على أعتاب لاعب كرة قدم محدود القيمة فى الوقت الذى لا يعلم أحد بوجوده ولا يحس به أحد!
فى المجتمعات المتقدمة يشجعون كرة القدم، لكنهم فى الوقت نفسه يحتفون بأبطال اللعبات الأخرى ويمنحونهم ما يستحقون من الشهرة والمال والمجد. ويستمعون إلى الأغانى لكنهم لا يهملون صاحب موهبة فى العزف، ذلك أن الحياة هناك تتسع وتسمح بوجود جمهور للراقى من الفنون والمتميز من الرياضات وتجعل منهم نجوماً مشهورين.
أما هنا فإن خراب التعليم وفساد الإعلام وتدهور الحياة الثقافية، فضلاً عن وقوع الثروة فى يد الجهلاء.. كل ذلك حال بين الناس وبين الفهم والإحساس والتذوق.. ولا عزاء للمتميزين!