بين ظلال الشك وضباب اليقين تناثرت أشلاء الحقيقة، حقيقة أن هناك ملايين خرجوا غاضبين، انتفض الشعب في يوم 25 يناير عام 2011 ثائرا على أوضاعه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، رافعا راية «عيش حرية عدالة اجتماعية»، جمعته التجربة الثرية بمفاجآتها ووحدته أهدافها، وسرعان ما تفرقت به السبل بعد إزاحة الستار عن الوجه الآخر للتجربة، ممن خذلوا شهداءها وداسوا بأقدامهم على العهود التي قطعوها وتنكروا لأهدافها، لبسوا ثوب التعفف وتقنعوا بلثام الفضيلة، طبقوا ما نادت به مبادئ ميكافيللى وعاثوا في البلاد تمزيقا..
بعد أن وحدته الأهداف في بوتقة الخلاص من حكم استبدادى رهن حياته ماضيها وحاضرها ومستقبلها دون أفق واضح ونجاحه في التخلص منه، وقع في شرك الصراع الأيديولوجى الذي بات يهدد بنية نسيجه المجتمعى، فانفرط العقد وتحولت مفرداته إلى سياط تجلد أحلامه وطموحه في غد أفضل، الكل ضد الكل، تشعبت الخلافات وقفز الشك ليتربع على عرش الاستقرار، وبدأت معاول الهدم تحل مكان البناء، وانحرف المسار، نشأت كيانات طفيلية دخيلة قوامها الإرهاب، لضرب استقرار المجتمع وتهديد ما تبقى من تماسكه وتفكيك مؤسساته والقضاء على نمائه، صراعات دموية يخوضها الإرهاب ضد استقرار الدولة وبناء جمهوريتها الثالثة لتحقيق الحلم الذي خرجت من أجله الملايين في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، تسممت الأفكار فاستعدى الأخ أخاه ودب الخلاف السياسى والأيديولوجى داخل البيت الواحد، ليمزقه صراع التناحر والاختلاف.
جيل الشباب الواعد كان على موعد مع مواجهة مؤجلة، عجلت الأحداث المتلاحقة من الصراعات السياسية وانعدام الأفق وفقدان الإحساس بالأمان والاستقرار بتفجيرها، الكثير منهم فقد البوصلة وانساق وراء أفكار تدميرية تستمد وقودها من تمرده وعنفوان قوته فلعبت على أوتار عواطفه باسم الدين، وجندت قوته للتدمير والتخريب، أصبحت ذكرى 25 يناير «لعنة» وذكرى النكسة والخراب لقطاع كبير من المجتمع، وبداية «ثورة التحرير» من الظلم والاستبداد لجزء آخر، ويوم «التدمير والتخريب» للجزء الثالث الذي أبى أن ينخرط في نسيج المجتمع واعتبر نفسه الحق والأحق!!
وفى ظل انقسام مجتمعى هائل وجهود متخبطة لمنع الانهيار، يرتع المارقون في كنف التمزق الذي ضرب عصب المجتمع، ينشرون الخراب والأفكار المتطرفة والدخيلة، لسحق أي استقرار حتى لا تنعم البلاد بالأمن ولا تتفرغ للتنمية والبناء، يمارسون الإرهاب والتدمير لترويع الآمنين وتذكيرهم بأنهم أقرب إليهم من حبل الوريد، فيمعن في استفزاز مشاعرهم ويزيد من مساحات الكراهية لديهم.
يقترب ذكرى 25 يناير والتناحر والانقسامات الحادة مازالت تكوينا، وهناك من يذكرنا بأنه لا يزال حاضرا في المشهد، يفجر ويفخخ ويقتل ويتباهى بالانتصار مع سقوط أكبر عدد من الضحايا، ماهو سقف مخططاته؟؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصمد أو يستمر؟! وما هي احتمالات نجاحه رغم التدمير والارهاب الذي يزلزل به استقرار المجتمع وأثبت فشله؟! ربما لا يعنيه كم الكراهية والحقد الذي زرعه في نفوس الآخرين، ولا يشعر بالندم أنه أصبح ملفوظا من المجتمع الذي ينتمى إليه، حتى إنه يعتبر نفسه خارج السياق والمكان! لكن حتمية التاريخ تؤكد أن لكل بداية نهاية، حينها ربما تكون النهاية أسوأ كثيرا من التوقعات.
ورغم هذا الضجيج الذي أحاط بالتجربة النازفة، إلا أن التغيير المنشود لم يبدأ بعد. الذي أضيف لها حالة التفسخ المجتمعى بين مؤيد ومعارض، رافض وموافق، مستكين وثائر، محب وحاقد، متفائل ومتشائم.. بين ثكلى ومكلومين من مشيعي الجنازات اليومية، شرطة وجيش ومواطنين لا ذنب لهم، وشامتين متربصين يتمنون إشاعة الفوضى ويتوعدون بالمزيد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، لا يوجد سقف لانتقامهم يعيشون في الوهم ويبنون عليه طريق الجحيم!! إرهاب منظم يبتغى وهن الدولة وضعفها، صراع خفى تتحكم فيه قوى ظلامية خارجية وتنفذه أذرعها الداخلية، تراجع في مفهومها معنى الوطن وتوارى الانتماء، وأصبح الهم الوحيد كيف تهدم الدولة وتنهار مؤسساتها؟!
هل نحن نساهم في ذلك؟ ربما!! بما نمارسه من سلبيات تساهم في اختراقنا وتسميم أفكارنا وابتعادنا عن أهدافنا الحقيقية التي خرجنا من أجلها في 25 يناير ومن ثم 30 يونيو، تناسينا ما كان سيؤول إليه الحال، وسرعان ما استبدلنا طموحاتنا لحياة مستقرة منتجة، بالتناحر على تقاسم كعكة الوطن، وكأنها أنضجت لتكون من نصيب حفنة تجردت من كل قيم المواطنة، وتقمصت دور البطولة على حساب جثث المقهورين والضعفاء والفقراء الذين وحدهم مازالوا يدفعون الثمن.