x

عمرو الزنط فكر آينشتاين والتنظيم العقلانى للعالم عمرو الزنط الجمعة 22-01-2016 21:24


تحدثت فى المقال السابق عن فكر آينشتاين، وتطرقت للتداعيات الفلسفية لنظرية النسبية العامة، فأشرت إلى أن النظرية فيزيقية وليست ميتافيزيقية- أى أنها معنية بالعالم المادى التجريبى وليس غير الملموس والغيبى- ولذلك فإن تداعياتها الفلسفية محدودة إذا كان الأمر يتعلق بردود على مسائل «وجودية»؛ بأسئلة مثل: لماذا يوجد عالم مادى من الأصل (لماذا مثلا يوجد أى شىء، على عكس سيادة العدم التام)؟ مع ذلك، فالنظرية لها تداعيات مهمة فيما يتعلق بطريقة معرفتنا للعالم، وفتح أفق المعرفة فيه كما أشرت فى نهاية المقال السابق.

أهم الجدل الفلسفى الجاد الذى دار بخصوص النسبية العامة تعلق تاريخيا بتصوير النظرية لمجال الجاذبية على أنه نابع عن انحناء للفضاء، يجعل الأجسام تجنح عن السير فى خطوط مستقيمة (وليس تحت تأثير قوة كما تصور نظريات نيوتن).. كان الفيلسوف إيمانويل كانط قد اعتقد أن الهندسة الإقليدية- التى ابتكرها إقليدس فى مكتبة الإسكدرية القديمة منذ أكثر من ٢٣٠٠ عام– تشكل شيئًا مطلقًا، لأنها ناتجة عن طريقة تصورنا للعالم.. هذه النظرية الهندسية لا تسمح بوجود فضاء منحنٍ، لذلك اعتقد بعض الفلاسفة أن ذلك ينفى نظرية كانط للمعرفة. وكان من أهم هؤلاء هانز ريخنباخ. لكن، كما أشار آينشتاين، فى مقال قصير يرد فيه على الأخير، فإن النسبية العامة تلغى جزءًا ثانويا فقط من فلسفة كانط، وليس مجمل فكر الفيلسوف العظيم. فقال فى رده «يبدو لى أنك لم تنصف كانط فيما يتعلق بإنجازه الفكرى المهم فعلا».

قال آينشتاين ذلك مشيرا إلى أن كانط تيقن بأهمية تلاحم الفكر النظرى مع معطيات الواقع فى سبيل تفسيره عقلانيا، ونظرية النسبية العامة ربما تجسد أعظم إنجاز فى هذا الاتجاه.. كان كانط قد تيقن أننا لا نعلم العالم كما هو، إنما بالضرورة عن طريق منظومة تفسيرية تكمن فى عقل الإنسان، وأهم عناصرها تنظيم العالم عن طريق البحث عن أسباب لمعطياته؛ ففكرة السببية نفسها لا يمكن استنتاجها من معطيات الواقع، بل ناتجة بالضرورة عن طريقة عمل عقل الإنسان نفسه.. فلا يمكن أن نتأكد من أن تصادف الظواهر الطبيعية ينتج بالضرورة عن ارتباط سببى، إلا إذا كان لدينا نظرية تشير لذلك.. مثلا، هناك حاليا الكثير من الجدل عن ظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وهذه الظاهرة متصادفة مع زيادة إنتاج الغازات التى تسبب الاحتباس الحرارى، الناتجة بدورها عن زيادة عوادم السيارات والمصانع. مع ذلك لا يمكن الجزم بوجود علاقة بين الظاهرتين؛ فلكى نتأكد من ذلك، لابد من وجود نظرية تربط بين التلوث البيئى والاحتباس الحرارى، مع فشل التفسيرات الأخرى (مثلا، نشاط زائد فى الطاقه المنبعثة من الشمس كما يجادل البعض). إذن فالسببية موجودة فى النظرية النابعة عن عقل وليس فى الطبيعة.

لذلك، فإن كانط ربما أخطأ فى اعتقاداته عن الهندسة لكنه كان محقًّا فى أهمية النهج النظرى فى فهم العالم (فبدونه لا يمكن الكلام بدقة عن مفاهيم كالفضاء والزمن من الأصل). مع ذلك، كما اعتقد كانط نفسه، فإن أى منهج نظرى يصبح «أعمى»، ضال السبيل، إذا لم ينجح فى امتحانات حادة فى مواجهة معطيات الواقع: فالفكر العقلانى مهمته شرح الواقع وليس فرض تصوراتنا المفضلة عليه.. وذلك له أهميه كبيرة، ليس فقط فى مجال العلوم الطبيعية وإنما أيضا فى مجال شرح أوضاع العالم الاجتماعى والسياسى (لاحظ كمّ نظريات المؤامرة السائدة، والتى من السهل تفنيدها على أساس معطيات الواقع إذا أخذت كاملة، لكنها تسود لأنها تريح البعض فكريًّا).

لفكر آينشتاين إذن تداعيات فلسفية تتعلق بطريقة تصورنا للعالم ومعرفتنا به، ومجسدة فى توضيح العلاقة بين شقى المعرفة العقلانية: الفكر المجرد والانطباعات المسبقة، والاختبار الدقيق الشامل، وهدفه التأكد من اتساق النظرية وتماشى كافة جوانبها مع كل ما نعرفه عن معطيات الواقع.

آينشتاين نفسه كانت تحرّكه مفاهيم مسبقة عن العالم، كما أشار فى أعظم ورقة بحثية كتبها- التى لخص فيها النسبية العامة فى مارس ١٩١٦- لكن كما أشار أيضًا، فى هامش مهم فى نفس الورقة، فإن هذه الأفكار ليست لها قيمة، مهما كانت مقنعة وجذابة، إذا لم تتماشَ مع معطيات الواقع. وأهمها، مثل ما يسمى «مبدا ماخ» لم يتحقق فى نظريته بالفعل.. فى المقابل، يختم آينشتاين تلك الورقة التاريخية بالتداعيات المعملية التى يمكن اختبار نظريته من خلالها (مثل انحناء الضوء وحركة الكواكب)؛ الأخير كان معلومًا آنذاك والآخر تم التيقن منه فيما بعد، ومازلنا فى صدد اختبار باقى تداعيات نظرياته المذهلة. فى ذلك تكمن عظمة آينشتاين، لأن تداعيات نظرياته فتحت عالمًا فسيحًا من المعرفة، فصار تصورنا عن الكون الذى نعيش فيه أوسع وأدق، نتيجة إرشادات عقل العالم العبقرى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية