لأن القراءة ليست جزءًا من نسيجنا، فإن الكثيرين لا ينجحون في تكوين رؤية خاصة بهم تجاه الأحداث تساعدهم أثناء استقبال سيول الأخبار والآراء والتحليلات على الاختيار والفرز والتقييم بشكل مستقل.
هنا تكتسب أشياء كثيرة أهمية تفوق حقيقتها بمراحل، فتصبح الجوائز -مثلًا- معيارًا للحكم على أهمية المنجزات، وشهادة شبه وحيدة للاعتراف بعبقرية كاتب أو ممثل أو رسام أو موسيقي أو غيرهم من مبدعين، من دون حتى الاطلاع على عمله الذي فاز؛ فلا شك في أنه مبدع فقد فاز بجائزة كذا واستضافه فلان في برنامجه وحاوره علان في صحيفة كذا، وظهر يصافح كيت من المشاهير... إلخ.
في أجواء كهذه، يصبح المذيعون -على ضعف التكوين الفكري للكثيرين منهم- قادة رأي وموجهي جماهير لا يتوقفون عن الكلام والتنظير من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من دون إغفال منطقة الوسط حين يلزم الأمر، وكلما زاد تنظيرهم كلما انتظرهم الناس لالتقاط «الخلاصات» التي يتبنونها دون أن يتزحزح أحدهم عنها قيد أنملة مهما حشدتَ له من قوى المنطق والعقل، لأنه- ببساطة- يغامر بفقدان أمانه الشخصي الذي تحقق له حين قرر تسليم عقله للمذيع الفلاني أو المحلل العلاني ممن لا شاغل لهم سوى التنقل من ستوديو لاستوديو ومن شاشة إلى أخرى لتكرار الكلمتين وقبض الجنيهين، فنجحوا «برغيهم» المستمر في ملء عقول البسطاء.
لا داعي للاجتهاد في استحضار أدلة على هذا الكلام، راجعوا قائمة نواب مجلس الشعب الأخيرة وتعرفوا على الفائزين وابذلوا جهدًا في استخلاص ملامحهم ورتبوها حسب معدلات التكرار وسوف تكتشفون بلا شك أشياء كثيرة قد تفيد الدول التي تهتم بالبحث والتقييم، منها ما يؤكد أن ما فعله النائب «عاشق تراب رجلين الإعلامي» إنما هو إفراز طبيعي لحالة جهل، أو قل «حالة ثقافة إعلام» أخطر من الجهل... تحكم المشهد العام.
أعضاء مجلس الشعب ليسوا استثناءً من المشهد المصري المتردي، بل هم نظريًا أفضل شريحة ممثلة لعيوب الشعب قبل حسناته، وفي مقدمة تلك العيوب ما تعانيه قطاعات عريضة من جهل يدفعها إلى البحث عن إمام تتبعه وولي تؤمن بسره الباتع وشيخ طريقة تأخذ عليه العهد، ويا حبذا لو كان هذا الإمام من أولئك المتقافزين بين وسائل الإعلام، أو من تلك العينة من الإعلاميين الذين جمعوا بين فقر الروح وفقر العقل، فتجدهم منتفخين بيقين الجهلة وأنصاف المتعلمين.
الواحد من هذه العينة لا يحتاج سوى وسيلة تنقل يقينه المتعالي وتبثه على الناس ليصبح بين ليلة وضحاها قائدًا مغوارًا يخلع البسطاءُ على أعتابه عقولَهم ويملؤون أوعيتهم الفارغة بفيض كلماته وإرشاداته ومواعظه التي يرددها بصوت ثابت لا يهتز وعينين زجاجيتين فارغتين لا تطرفان من فرط العمى، وعندها يصبح وليًا من الأولياء وصاحب مقام عال يتمنى البسطاء التمرغ في أعتابه، أو على حد قول نائب الشعب الموقر الممثل لشعبه أبلغ تمثيل جبالى المراغى للإعلامي تامر أمين: «أنا بعشق تراب رجلين سيادتك».
ولكن على من نُلقي باللائمة!
لماذا كلما رأينا رجلًا صادقًا في تعبيره عن صورة الغالبية الساحقة في الشعب المصري تظاهرنا بالصدمة والتأفف وجعلناه إما أضحكوتنا أو ضحيتنا، وجعلنا كل همنا أن نعاقبه أو نخفيه من المشهد حتى نعود لغفلتنا التي نتوهم فيها أنه الاستثناء بينما هو القاعدة؟
هذا الحرص على السخرية من الرجل ومبادرتنا المتلهفة للتعبير عن مدى استيائنا من تصرفه إنما هي رد فعل عكسي لصورته القابعة داخل كل منا، المستعدة لتقبيل أعتاب كل مشهور ومسؤول وثري وصاحب سلطة.
إننا نحارب في المراغي خوفنا من ضعفنا أمام السادة والأولياء الجدد الذين صنعتهم الثروات ورفعهم الإعلام ليقدسهم الغلابه والمنشغلون بقوت يومهم فيأتمرون بأمرهم.
اثبت يا مراغي ولا تخجل من صدقك، فأنت أصدق منهم جميعًا.
وأنتم... لا تقتلوا المراغي أو تلقوا به في الجب، فلن يخلوا لكم وجه الوطن إلا إذا أقمتم على شرف هذا النائب الصادق مركزًا للدراسات والبحوث، سلموه لباحثين أكفاء واعهدوا إليهم بدراسة هذه الحال التي إن لم نبادر لدراسة وتحليل أوضاعها ووضع سيناريوهات لضبطها- فسوف تزداد وترسخ وتنتشر وتتوغل إلى أن يأتي يوم لا نجد فينا من يستنكر قولة كقولة «المراغي»، لأننا -وقتئذ- سنكون كلنا «عاشقين لتراب رجلين» كل «تامر» غير أمين من أصحاب السيادة المتحدثين الرسميين باسم أصحاب السيادة المنتفعين الحقيقيين.
اثبت يا مراغي وإياك أن تتراجع عن تمثيلك لواقعنا المزري.
وتحيا مصر.