منذ سنوات عديدة، وعندما كنت طفلاً، أذكر قول والدي: «لا تتعارك مع أي أحدٍ يُهين دينك». ومع ذلك، فإن نصيحة الكفِّ عن العراك تلك دفعتني إلى مناقشة أبي في أمورٍ كثيرةٍ. كنت أسأله: «لِمَ يتوجَّب على المسلمين أن يكونوا دائمًا متسامحين هكذا؟ لِمَ يُعطون الدنية في دينهم؟». ويرُدُ أبي: «لأنَّ هذا هو ما أمرنا الله به». فأسأل: «ولكن أين يأمرنا الله بهذا وكيف؟». فُيجيب: في القرآن، وذلك قبل أن يقرأ الآية 68 من سورة الأنعام:
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
يحفظ معظم المسلمين هذه الآية عن ظهر قلب. إذا كان ذلك كذلك، فلماذا يكون رد فعل البعض منهم على هذه الإهانات عنيفا؟ أيمكن أن يكون ذلك بسبب خطأٍ في التفسير؟ رُبَّما، لكنَّه سببٌ مُستبعَدٌ لأنَّ الآيات واضحة تماماً.
لسنواتٍ عديدةٍ، عشتُ جنباً إلى جنبٍ مع مسلمين يصفهم الكثيرون بالمتطرفين، معظمهم من العرب المصريين الذين يُقيمون في بقاع مختلفة في العالم. على مدار تلك السنوات، تبادلنا الآراء حول موضوعات مختلفة، ومن بينها: كيف ينبغي لنا أن نرد على أولئك الذين يهينون الإسلام، والذات الإلهية، ورسول الإسلام محمد بغض النظر عن كونهم مسلمون بالاسم فحسبوأن يكونوا أتباع أديان أخرى، أوعلمانيين.
فقد كان تركيزنا خلال تلك المناقشات على إرتكاب هؤلاء خطيئة الخوض في ديننا، الإسلام. كان موقف كثير منهم إنه في حال لم يفلح الجدل في هداية هؤلاء الخائضون في الإسلام إلى الصراط المستقيم، فإنه ينبغى التعامل بدنيا معهم.
وبالرغم من أن إجابتهم أصابتنى بالقلق، لكني وضعت في الاعتبار البيئة والظروف القاسية التي كانوا يعيشونها؛ فقد التقيت هؤلاء الرجال خلال مهام عمل قمت بها في مناطق الحرب في البوسنة، وأفغانستان، والشيشان. فففى الوقت الذي كانت تلك مجرد مهام عمل لى، كان ذلك قد أصبح أسلوب حياة بالنسبة لهم.
وهو ما تجلى في تأثر آرائهم بما كانوا يواجهونه ويتعرضون له من مستويات لا تُصدَّق من العنف والقمع، فهؤلاء لم يولدوا «مُتطرفين»، بل دفعوا دفعا ليُصبحوا هكذا، وذلك بالرغم مع أنَّ آيات القرآن واضحة وضوح الشمس في تحريم العنف تجاه الذين يهينون الإسلام.
ثمَّة خطأ شائع آخر يقيع فيه كثير من المسلمين، والغالبية العظمى من الغربيين، ألا وهو تعريف كلمة Terrorism ومعادلتها بكلمة «الإرهاب» في العربية. والحقيقة أن المعنى الصحيح لكلمة إرهاب في اللغة العربية، كما في القرآن هو «الردع».
وفى علوم العلاقات الدولية كما في الإسلام، فإن الردع هو منع العدو/ الخصم من استخدام القوة بالتلويح بإمكانية استخدام القوة المضادة، وهو ما لا يستلزم الاستخدام الفعلي للقوة. ولذا، فإن القرآن يأمر المسلمين بضبط النفس عند الحاجة إلى استخدام القوة؛ فضبط النفس هو أفضل وسيلة للحفاظ على السلام وردع الأعداء عن الهجوم.
وعلاوة على ذلك، فإن القرآن ينهى المسلمين عن خوض الحرب إلا في حالات مُحددة وهى: الدفاع عن النفس، ونصرة المظلومين، وفي حالات اإنتهاك طرف أو أطراف متعاهدة على السلام استعدادا لشن الحرب. ومع ذلك، فإنَّ الاستعداد للحرب، والحرب نفسها، يجب أن تتوقَّف فور انتهاء هذه الظروف.
وفي حال اضطرار المسلمين للدخول في حالة الحرب، ثمَّة مبادئ حاكمة مُحددة يجب اتباعها ومن بينها: يُحظر شن أيَّ هجوم مباغت على العدو، وينبغي إعلان حربٍ واضح من جانب المسلمين، وإذا جنح العدو للسلام، فإن المسلمين ملزمين دينياً بوقف الأعمال العدائية فوراً إذا كان القتال قد بدأ بالفعل.
وفى إطار تأسيس قواعد أخلاقية للحرب الفعلية، ينص القرآن على 11 من النواهى المحرمات على الجنود المسلمين، وهى: الغدر- التمثيل بالجثث- قتل الأطفال، والنساء، وكبار السن أو إيذائهم- إيذاء المدنيين غير المقاتلين- إيذاء الجنود الذين ألقوا أسلحتهم- الإضرار بالبيئة- إيذاء الماشية والحيوانات- وإيذاء رجال الدين من الكهنة والقساوسة من كافة العقائد- الإضرار بالبيوت التي يُعبدالله فيها من لكافة الأديان- قطع إمدادات المياة عن العدو.
وقد يتساءل المرء: لماذا يُحرم الإسلام إيذاء الكهنة والقساوسة ودور العبادة لكافة الأديان؟ والجواب واضح في القرآن الكريم، حيث يصف سبحانه وتعالى المسيحيين: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة، 8)، وفي أجزاء أخرى من القرآن يصف اليهود والنصارى بأنَّهم أصحاب العهد والكتاب المقدس.
ولمن يتساءل عن السبب في تحريم قتل غير المقاتلين، أو حتى الجنود الذين يلقون أسلحتهم، فإن آيات القرآن تجيب بمخاطبة الله تعالى اليهود قائلا:
} مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا{ (المائدة)
إن العنف ليس متأصلاً في الإسلام بقدر ما هو غير متأصل في المسيحية واليهودية. في أحد الأيام، دعتنى صديقة لحضور قداس في الكنيسة خصص لتشجيع الشباب المسيحيين على التوبة لله.
في هذا القداس، لم يكتف الكاهن بالتبشير بالمسيحية باعتبارها الدين الأصوب، إلا إنه برر ذلك بأنَّ الإسلام عقيدةٌ تُحرض على العنف، وذلك بالرغم من أن الإسلام لم يكن ضمن الإعلان عن مضمون القداس.
وبالرغم من إننى لا أرى نفسى مسلما شديد الإلتزام، إلا إننى ذكَّرتُ الكاهن في نهاية القداس بتاريخ من العنف الوحشى للمسيحيين الأوروبيين ضد المسلمين. واختتمت حديثي بالقول إن «إيمانى كمسلم يلزمنى بالإيمان بكافة الأديان السماوية الأخرى، وبأن كافة الأديان نقية، ولكنى لا أعتقد بأنَّ هذا ينطبق على جميع أتباع تلك الديانات».
فلم تكُن المسيحية هي التى بررت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولكن الكثير من المسيحيين البيض هم الذين أساءوا استخدام الكنيسة الإصلاحية البروتستانتية الهولندية مصدراً لشرعنة النظام العنصرى.
أيضا، لم تكُن المسيحية هي التى برَّرت للسود في جنوب أفريقيا الرد على ذلك بالعنف، بل كان القمع الذى تعرضوا له على أيدى العنصريين من البيض هو السبب فى ذلك العنف المضاد.
فى الوقت ذاته، لم تكُن اليهودية هي ما دفع اليهود إلى ممارسة العنف ضد العرب في فلسطين، بل كان التاريخ الطويل من الظلم والاضطهاد الذي تعرَّضوا له في الغرب، والذى إنعكس للأسف على العرب.
وفى هذا الصدد، فإن المسلمين كبشر مثلهم مثل الآخرين من أتباع الديانات الأخرى، لا يُمكن قمعهم وإضطهاد بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة عن طريق فرض طغاة من أبناء بلادهم يمارسون القتل، والتعذيب، وتدمير حياتهم، من دون أن يتوقع المرء أن يكون هناك رد فعل من بعضهم، وللأسف مثل هؤلاء ممن يفقدون عقولهم وإنسانيتهم ليرتكبوا جرائم شنيعة مثلما فعل المتورطون في «تشارلي إبدو» وهجمات باريس مؤخراً. إنَّنا إذ ندين بشدة هذه الجرائم المشينة والمجرمين الذين يرتكبونها، فإننا يجب علينا - في الوقت نفسه - أن ننظر في الجذور والأسباب الحقيقية التى تؤدى إلى شذوذ تفكيرهم وعقولهم.
الشاهد، فإننى كمسلم أرى نفسى ليبرالياً معتدلاً، أؤمن بمقولة القديس أوغسطين، والتى تنسب خطأ إلى بوذا: «أن تكره كمثل الذى يجرع السم متوقعاً أن يموت من تكرهه». أعتقد - مخلصا- أن الوقت قد حان لنا جميعاً أن نتوقُّف عن تجرع السم.
*نقلا عن هافينغتون بوست عربي.