يخرج هذا الحاكم إلى بلاد جديدة من وقت لآخر، يرى ويشاهد ويفهم، ثم يعود ليروي للشعب أخبار البقاع البعيدة من العالم. هذا الحاكم وصل إلى بلد لا يعرفه الشعب، التقى نظيره في ذلك البلد، وجمعت الصداقة الاثنين، وأثناء الزيارة، كان الحاكم يمشي بجوار صديقه الجديد، وإذ به يرى شخصين يشبههما تماما يقتربان! للحظة فزع الحاكم، كيف لهذين أن يدخلا مقر الحكم؟ بل كيف هما على هذا الشبه منه وصديقه؟. بسرعة أشهر الحاكم سيفه وهمّ بضرب الرجل الذي يشبهه تماما، لكن ما كاد يقترب يحرك السيف إلا وسأله حاكم البلد المضيف: «ماذا تفعل؟ من ستضرب؟»، فأجابه: «سوف أقتل هؤلاء.. كيف تسللوا إلى هنا؟»، كان رد الرجل ضحكة عالية طويلة قال بعدها: «هؤلاء هم نحن، هذه مرآة!».
لم يكن هذا الحاكم يعرف المرآة، تخلو بلاده منها، كان هذا تعارفه الأول على الشيء الذي يضع أمامه شخصا مثله تماما، شخصا يشبهه شكليا ويحاكيه حركيا. ظل الحاكم مبهورا بالمرآة طوال اليوم، وفي الليل ظل يفكر في هذا الرجل المطابق له الذي يظهر كلما نظر هو في المرآة. هل لحاكم أن يرتاح إذا ظهر شخص يشبهه تماما؟، ماذا لو رأى الشعب انعكاس صورة حاكمهم في المرآة، وظنوها شخصا حقيقيا؟ هل إذا اعتبروا انعكاس الصورة شخصا حقيقيا سوف يحبونه أكثر من الحاكم؟.
في اليوم التالي سأل الضيف صديقه: «فيم تستخدم المرآة أيها المبجل؟»، رد الرجل: «في التزين والهندام.. انعكاس صورتي يطمئنني ما إذا كان مظهري على ما يرام، أو إن كان عليّ تعديله». أطرق الحاكم وقال في جدية: «لا يكفي يا صديقي!»، مردفا: «المرآة اختراع عظيم، خصوصا للسياسيين أمثالنا، إنه يجعلنا أكثر من شخص، ماذا لو رأى الشعب صورة حاكمهم في المرآة؟» وواصل حديث في حماس معددا الأسئلة التي دارت في ذهنه الليلة السابقة. أما حاكم البلد المضيف، فقد ظل مندهشا مما يسمع.
في ختام زيارة هذا الحاكم للبلد البعيد، أهداه نظيره مرآة فخمة ليضعها في حجرته، وقال: «أعتقد أنها مفيدة لك يا صديقي، لكنني متخوف من كونها تثير برأسك أسئلة كثيرة». فرح الرجل بالمرآة، وقال: «أشكرك بشدة.. سوف تكون مفيدة لي جدا، خاصة بعد أن وجدت إجابات لهذه الأسئلة التي طرحتها عليك». وواصل: «في الحقيقة إنني أود المزيد.. أريد أن تشتري بلادي مرايا كثيرة، نستوردها من بلدكم». اندهش صديقه مجددا، لكنه وافق على طلب التصدير، ووعده بإرسال مرايا كثيرة إليه.
عاد هذا الحاكم إلى هذا البلد، وأعلن لمساعديه أن يود إلقاء خطاب مهم على الشعب. توقفت الحركة في البلاد، واجتمع العباد ووقف الملك يخبرهم بابتسامة عريضة: «أيها الشعب العظيم: تعلمون أنني أجوب العالم بحثا عما يفيد بلدنا الطيب، وفي زيارتي الأخيرة تعرفت إلى اختراع مهم سوف يغير الحياة السياسية هنا». اختفت الهمهمة وساد الصمت والترقب، وواصل الحاكم: «لكم مطالب كثيرة، ويصعب عليكم الوصول إلىّ، كما يصعب علىّ الوصول إليكم.. ماذا لو صار لي نسخة أخرى، تخبرني بشكواكم؟». استمر الشعب صامتا، بدا أنه لم يفهم المقصود، أخرج الحاكم المرآة التي أهداها إليه صديقه وجهها إلى جانبه الأيمن صائحا في مباهاة: «انظروا! ها أنا ذا، أليس هذا الرجل هو أنا؟»، واستمر يحركها بمواجهة زوايا وجهه المختلفة!
رفع الحاكم صوته قائلا بنبرة إعلانية: «إذا كان لدى الواحد منكم مرآة، وتحدث إلى صورته فيها، سوف تسمعها صورتي في المرآة، وأسمعها أنا» وأوضح: «سوف يحتفظ كل منكم بمرآة، ينظر إليها ويلقي شكوته، فتصلني عبر مرآتي». واختتم: «قد أمرت بالفعل باستيراد المرايا لكم». هلل الشعب، وتعالى الهتاف باسمه.
ارتاح معظم أهل هذا البلد إلى فكرة إتاحة الحديث إلى الحاكم عبر اختراع المرآة، بينما كان بعضهم قلقا من عدم توافرها أو ارتفاع أسعارها، وبدأوا يشكلون جمعيات الدفاع عن الحق في امتلاك المرايا، والتخطيط لحملات تطالب بإخضاع رسم شراء المرآة للدعم الحكومي، وجمعيات لتدريب فنيين على نقل وإصلاح المرايا. وتحالف هؤلاء ليعملوا سويا تحت شعارات «مرآة في كل بيت» و«المرايا للجميع».
وصلت شحنة المرايا المستوردة، وسارع الجميع إلى شرائها، وما يصل الواحد منهم إلى منزله إلا ويقف أمام مرآته محييا الحاكم وساردا شكواه وواثقا من وصول ذلك إليه. لكن بعد أيام قليلة، بدأ الشعب ينتبه إلى أن وجود المرآة في بيته يعني أن الحاكم يسمع ما يجري في البيت. قام بعضهم بتغطية المرايا التي يملكها، لكنهم جميعا ظلوا يراقبون أقوالهم عن السياسة والحكم حتى في غرفهم!.