في الحكايات التاريخية والسير الشعبية يكون البطل القومي المصري مثيرا للإبهار، قادرا على توحيد الجماهير، مساندا للجميع، تجده في الأزمة صانعا للحلول، وفي الرخاء صانعا للبهجة. الحقيقة أننا- المصريين- لدينا هذا البطل، نعرفه جيدا منذ سنوات لم يدركه الشيب خلالها أو تتجاوزه البطولة، إنه الكشري كما ذكرت في العنوان!
نبدأ من أول السطر، البطل القومي يوّحد القوم، يجمع شمل المصريين من أنحاء البلاد جمعا يؤلفهم ويخرج أجمل ما فيهم. انظر إلى طبق الكشري، تجد فيه البصل البحيري والعدس الإسناوي والأرز الكفراوي.. يجتمع سفراء الريف والصعيد والدلتا في مساحة واحدة وتآلف تام. هذا الطبق يتسع لمزيد من السفراء حتى من غير المصريين، مثلا حمص «الشام»، والمعكرونة الإيطالية أصلا، ربما بعض الشطة «السوداني» مخلوطة بالخل أو الطماطم.
البطل يرتب أوقاتا سعيدة، ومجرد الخروج لتناوله الكشري في محل بيعه يظل طقسا يمارسه المراهقون من أبناء الطبقة الكادحة في الأعياد. البطل- أيضا- يساند القوم في أزماتهم، وهو دور يؤديه الكشري دون تواني، مثلا في أزمات أنابيب البوتجاز المتكررة يكون غداءا رخيصا ومشبعا للأسر المتضررة، وفي الاعتصامات العمالية، يكون طعاما سريعا وامتوافرا واقتصاديا للمنضالين. في مختلف الظروف الاستثنائية يظهر الكشري حلا لأزمة الغذاء، مثلا في الوقت القصير قبيل استقلال مواصلات السفر، في سفرات اليوم الواحد التي يجيء فيها سكان المحافظات الأخرى إلى القاهرة ويضيع يومهم في طوابير الانتظار.
الكشري بطلا، ربما على غرار (باباي) البحار الذي يظهر في أفلام الكارتون شديد النحولة، لكن ما أن يفرغ في جوفه علبة سبانخ إلا ويتحول إلى بطل مفتول العضلات. أو حتى يشبه الكشري (بندق)، شخصية ديزني التي يحدث لها التغيير ذاته بعد تناول حبات الفول السوداني. الكشري يصبح رجلا، ما أن ينتهي من طبق المعكرونة المخلوطة بالأرز والعدس والشعرية المزينيين بالبصل المقلي وعصير الطماطم الحار، فتتغير ملامحه وتتضخم بنيته، ليتحمل عنا الصعاب، يحل الأزمات. يقترح هذا الرجل الكشري الاستغناء عن كتب التلوين ذات الشخصيات الأجنبية، أو استبدال صورته بها. ربما يظهر في حلقات تليفزونية خلفا لشخصية (بكار)، يحل محل الطفل النوبي رجلا بملامح مصرية عادية،لا أظنه يحتاج ملاءة على عنقه كالتي يضعها (سوبربندق)، الأفيد أن يضع على رأسه قبعة رياضية تحميه من الشمس، أو نظارة شمسية، أرشح له أيضا حذاءا بعنق طويل، بحيث يتحسب للشوارع المبللة بالامطار أو بغيرها.
تحجم ربات البيوت عن صناعة الكشري منزليا، ربما أخطأت إحداهن في المكونات أو لا تحسن طهيه، فيغضب البطل. في جانب آخر، سوف يتجهم الرجل الكشري في وجه عمال المطاعم، يزجرهم: «لماذا تبكون؟! ألستم راضين عن بطولتي القومية؟»، يرد أحدهم «بلى! لكنه البصل! بطولتك ووجودك يحتاج بصلا، ونحن ندمع من البصل»، لكنه –مع ذلك- يقرر التخلي عن البصل عقابا لهؤلاء، بحيث تتوقف أعمالهم، ويظل هو كشريا. سريعا ما ينشغل الرجل الكشري في تفادي خضوعه الحتمي لموردي الأرز والمعكرونة والطماطم... بدون هذه الأشياء يزيل وجوده أو تزول بطولته. بثقة يخبرنا البطل أنه يستطيع أن يستمر دون هذه المكونات، في عنجهية يؤكد أنه لا يعبأ إذا اختفى الأرز أو خلت مصر من الطماطم، سوف يظل رجلا وبطلا وكشريا!.
يصير الكشري بطلا غير محمود، يخافه الناس بدلا من الاحتماء به، ولا يجدون في صنائعه ما يفرحهم. يحتاج الناس إلى بطل جديد، لعله كشري أيضا. يأملون أن يكون بطلا في الخفاء، يظهر كطعام عادي في أطباق (ستانلس ستيل) الشعبية، بينما في غيابهم ينشط ويتألق، على طريقة (على الزيبق) في العصر المملوكي، الذي ظل ينتقم لوالده وصديقه وأهل بلاده بالحيلة والمكر، دون الكشف عن هويته. يصول البطل الكشري بين الأحياء، ويثبت وجودا قويا في كافة الطبقات الاجتماعية. مطاعم منطقة الزمالك باتت تعد الكشري، ومطاعم باب الشعرية كذلك، صحيح أن كلا منهم يقصد فئة مستهكلين غير الآخر- هذا الأجانب المقيمين وذاك العمال- لكن يظل الكشري واحدا مهما اختلف زبائنه أو مكان بيعه، نفس المكونات وطريقتي الإعداد والتقديم. حتى الإسم، يحتفظ البطل بإسمه المصري الذي لا تجد له نظيرا في اللغات الأخرى، بحيث لا يتمكن أحدنا من افتعال لكنة أجنبيه في نطقه ليتميز عن الباقين.
ينزعج بائعو الكشري من حالة المساواة التي يخلقها بين آكليه، فهم لا يجدون ما يضعونه في قائمة الأسعار سوى تصنيفات «عادي، لوكس، سوبر لوكس» التاريخية، المعنمدة على زيادة السعر وفق الكمية والإضافات. ومع انتشار الكشري في المناطق المرتفعة الأسعار، يحاول البعض إعادة تقديمه بشكل يجعله مختلفا عن كشري المناطق الشعبية، فيضيفوا إليه اللحم المفروم، لكن ما يبرح طهاة المناطق الشعبية الرد على ذلك بإضافة السجق الشرقي والكبدة البلدي إلى الكشري، ما بدا إحتواءا ذكيا لمحاولة النيل من المساواة، أعظم انجازات هذا البطل.
تحاول الأعداد الكبيرة من المصريين التي استقرت في منطقة الخليج اصطحاب البطل القومي معها، ليتم صناعته منزليا، ثم تظهر محالا لبيعه في دول عربية، ثم يتم تكييف الطبق مع أفضليات أهل هذه البلاد، فيظهر كشري بالدجاج. شخصيا تزعجني هذه التنوعات، لكنها لا تقلقني، لأن الكشري سوف يظل نفسه، طعام يتساوى أمامه الجميع.
لكن البطل الخفي سوف ينكشف لأن ثمة آخر يريد أن يحل المحله، تعرف من؟ الخبز! صحيح أن ال(عيش) ضروري وأساسي في كل وجبات المصريين، لكنه يحتاج صنفا أو أصنافا إلى جانبه، من خلال هذه الأصناف ينعكس التفاوت الطبقي. تنوع الخبز نفسه يقلل من كفاءته لتحقيق ما صنعه الكشري فعلا. لكن تنجح مساعي (العيش) للنيل من البطل القومي، ويتم إعدام الكشري على مشهد منا، يبكيه الشعب ويخرج هاتفا «كشري... حرية... عدالة اجتماعية»!