بدأ مجلس النواب أولى جلساته التى طالت لساعات ربما غير مسبوقة فى التاريخ البرلمانى المصرى، وببث مباشر كامل لها للشعب المصرى. وقبل مرور ثمان وأربعين ساعة على بدء المجلس، ذى السنوات الخمس من العمر، عمله، كانت التعليقات فى مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى تتخذ من بعض «اللقطات» أو «المشاهد» التى تمت فى جلسات المجلس أو على هامشها من بعض النواب، مؤشرات نهائية وأدلة دامغة على ما سيقوم به هذا المجلس خلال سنواته الخمس المقبلة. والحقيقة أن التنافس على المتابعة والتزاحم على الانفراد والسعى وراء «الإفيهات» اللافتة، من جانب بعض وسائل الإعلام والتواصل، وهو ما اتسم به- للأسف- أداؤها خلال السنوات الأخيرة، كان وراء الترويج الواسع غير المدقِّق ولا الموثِّق لهذه السلبية التى أُشيعت عن البرلمان الجديد.
وكما كان التسرع والعوامل السابقة وراء تعجل وسائل الإعلام والتواصل فى وصف المجلس بما لم يتأكد بعد عنه، فتسرع أعضاء المجلس فى قرارهم- باليوم الثانى لجلساته- بمنع البث المباشر لجلساته، بما بدا كرد فعل لما نُشر وأُشيع فى هذه الوسائل من لقطات ومشاهد و«إفيهات» سلبية عن المجلس وبعض أعضائه.
والحقيقة أن هذا القرار له مثالب عديدة، ربما كان أهمها مخالفته للدستور الذى ينظم أعمال كافة سلطات البلاد، ومنها المجلس النيابى، فالمادة «120» من الدستور تنص، فى فقرتها الأولى، على الحكم الأصلى فيما يخص جلسات المجلس، وهو أن «جلسات مجلس النواب علنية»، بينما يأتى الاستثناء، فى الفقرة الثانية، وهو جواز «انعقاد المجلس فى جلسة سرية، بناءً على طلب رئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس المجلس، أو عشرين من أعضائه على الأقل» على أن يكون القرار الأخير فى هذا للمجلس بأغلبية أعضائه. ويعنى هذا أن ما يملكه المجلس ليس تقرير إذاعة الجلسات ولا عدم إذاعتها مباشِرة أو غير مباشِرة، بل علنيتها أو سريتها فقط، فله الحق الدستورى فى أن تكون سرية، وهو ما يعنى حظراً قانونياً كاملاً على إذاعتها أو نشر أى شىء عما دار بها إلا بإذن المجلس.
أما إذا لم يقرر المجلس، وفقاً لشروط النص الدستورى، سرية جلساته، فيُطبق الأصل فى نفس النص عليها، وهو أن تكون علنية. وقد يرى البعض أن العلانية لا تعنى بالضرورة الإذاعة المباشرة للجلسات، إلا أن هذا ليس دقيقاً، فالعلنية التى أقرها الدستور كأصل لجلسات المجلس النيابى، فصَّل صورها ووسائلها قانون العقوبات فى المادة «171» منه، والتى تعاقب على أفعال السب والقذف عبرها. وهى، حسب هذه المادة، تبدأ من الصياح فى الأماكن العامة، وتمر بكافة وسائل الكتابة والرسم والتصوير والرمز والإذاعة بطريق اللاسلكى أو «بأى طريقة أخرى»، حسب نصوص هذا القانون الذى صدر عام 1937، بما يعنى شمولها، اليوم ووفق أحكام عديدة من محكمة النقض، لوسائل الإعلام والاتصال العلنية الحديثة الأخرى. أى أن النص الدستورى بأن الأصل فى جلسات المجلس هو العلنية، والتعريف القانونى لوسائلها، ومنها البث المباشر عبر الإعلام المرئى، يجعلان من وسائل الإعلام والاتصال التى حددها القانون لبث العلانية هى الطريق الوحيد لجعل جلسات المجلس علنية كما قضى الدستور.
ومن ناحية ثانية، فإن الدستور لم ينص على علنية أعمال أو جلسات سوى المجلس النيابى والمحاكم، ولم يمد هذا الحق لأى من فروع السلطة التنفيذية سواء كانت أعمال رئيس الجمهورية أو الحكومة. ومع هذا، فإن الدستور قد أعطى مبررات كثيرة فى مواضع أخرى لارتباط العلنية فى حالة جلسات المجلس ببثها بكافة وسائل الإعلام والاتصال التى تحققها، بما لا ينطبق بالضرورة على جلسات المحاكم، فالمجلس النيابى أتى منتخباً من الشعب، بخلاف القضاء الذى ينظم الدستور والقانون طرق العمل به، وقد نصت ديباجة الدستور والمادة الرابعة منه على أنه «هو- وحده- مصدر السلطات»، وأن «السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات»، فكيف للشعب أن يمارس هذه السيادة ويحميها تجاه المجلس النيابى، إذا كان محروماً من متابعة ومعرفة ما يجرى به من أعمال ومناقشات؟ وكيف يتفق قرار منع بث الجلسات العلنية مع التنبيه المحترم والدستورى، الذى جاء فى الكلمة الافتتاحية لرئيس مجلس النواب الدكتور على عبدالعال، عندما خاطب أعضاءه: «لا تناموا ملء جفونكم أو تغفلوا، فالشعب متيقظ، يراقب ويحاسب»! فكيف للشعب أن يراقب أو يحاسب وهو لا يرى أو لا يسمع؟
من ناحية ثالثة، فإن قرار منع البث يتصادم مع نص دستورى آخر، وهو المادة «68»، التى توجب أن تكون «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملكا للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيره وإتاحته للمواطنين بشفافية»، فليس هناك أهم للشعب من معلومات وبيانات وإحصاءات ووثائق رسمية مما يجرى تحت قبة البرلمان الذى انتخبه، وهو- بحسب المادة- حق له والتزام على الدولة، التى يُعد البرلمان أحد أركانها الثلاثة، بأن توفرها لها وتتيحها بشفافية ودون منع أو مسخ أو تشويه. أما إذا تعلق الأمر بمقتضيات الأمن القومى التى قد يمسها البث، فللمجلس الحق الدستورى فى جعل جلساته التى ترتبط بها سرية.
ويؤدى بنا هذا إلى زاوية رابعة لمخالفة قرار منع البث نصوص الدستور، وهو ما ورد فى المادة «71» التى تنص على أنه «يُحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها فى زَمن الحرب أو التعبئة العامة»، فمنع البث يمثل نوعاً من الرقابة على هذه الوسائل، التى لا يملك البرلمان- وفقاً للدستور- فرضها إلا فى زمن الحرب أو التعبئة العامة المحددين بدقة فى التشريعات المصرية، واللذين لا نمر بأى منهما حالياً، فاجتماع أصل العلانية فى جلسات المجلس، مع تعريف وسائلها فى القانون المُشار إليه سابقاً، يجعلان هذه المخالفة الدستورية أكيدة ولا تقبل التأويل أو التبرير.
وتتعلق الزاوية الخامسة لمخالفة قرار منع البث نصوص الدستور بحقوق المواطن السياسية المنصوص عليها فى المادة «87»، التى تقول إن «مشاركة المواطن فى الحياة العامة واجب وطنى، ولكل مواطن حق الانتخاب والترشح وإبداء الرأى فى الاستفتاء»، فكيف لهذا المواطن، الذى قدم الدستور حقه فى الانتخاب على حقه فى الترشح، أن يحكم على مَن انتخبهم وما إذا كان سيعاود هذا أم لا، إلا إذا تابع بالتفصيل ما يقومون به تحت قبة البرلمان عبر بث جلساته؟
وترتبط الزاوية السادسة والأخيرة لمخالفة قرار منع البث نصوص الدستور بوظائف مجلس النواب والقَسَم، الذى يؤديه أعضاؤه لاكتمال عضويتهم به، كما ورد فى المادتين «101» و«104» من الدستور، وتربط الأولى الوظائف بكل ما يمس حياة الشعب من تشريع وإقرار سياسات الدولة خططها الاقتصادية والاجتماعية وموازنتها والرقابة على سلطتها التنفيذية، بينما تُوجب الثانية على عضو المجلس احترام الدستور والقانون ورعاية مصالح الشعب رعاية كاملة، وكل هذا يُوجب أن تكون الجلسات العلنية للمجلس متاحة للبث لهذا الشعب بكل ما هو متاح من وسائل الإعلام والاتصال.
وبالإضافة لكل الاعتبارات السابقة لعدم توفيق قرار منع بث جلسات البرلمان، فإن القاعدة الشرعية الفقهية التى تقضى بأن دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة تؤكد عدم التوفيق هذا، فالضرر الذى ترتب على قرار المنع لدى قطاعات واسعة للغاية من المصريين فى حق المجلس نفسه وشكوكهم فيه وصورته الدستورية لديهم وخوفهم على حقوقهم الدستورية، كله مفاسد لا تقابلها من الناحية الأخرى أى منافع مماثلة من قرار المنع، لأن البث يمثل فى ذاته منافع وفوائد حقيقية للمجلس ونوابه أو أغلبهم فور أن ينتظم عمله وتستقر قواعده.
ويبقى، حتى تكتمل ملامح المشهد، أن نطالب كل وسائل الإعلام والاتصال فى تغطيتها لأعمال البرلمان بالتزام القواعد المهنية المستقرة والمعروفة، وأن تتوقف عن التعامل مع جلساته وأعماله- ومع كل ما تغطيه- بمنطق اللقطة أو المشهد أو «الإفيه»، وأن تنتظر أو تمتلك مؤشرات نهائية وأدلة دامغة على أداء المجلس قبل أن تُطلق أحكامها عليه وعلى أعضائه وتروِّج حولهم انطباعات سلبية غير موثَّقة ولا مؤكَّدة حتى الآن على الأقل.