«بحبها بحبها وقلبى ساكن حبها
يا ريت يا شوق يا ريت يا شوق
توصل لها ويحس بىَّ قلبها
بحبها بحبها
بكرا خلاص حقول لها
روحى لها عقلى لها»
مع طلعة الصباح، حوالى الساعة السابعة إلا ربعاً، كان الصوت يطلق هذا المقطع من الأغنية الشهيرة الجميلة، التى كتبها البديع مرسى جميل عزيز، ولحنها الموهوب محمد الموجى، وشدا بها العندليب- حقاً- عبدالحليم حافظ، لكن الصوت الذى كان يشق فضاء المكان مرتفعاً حتى الأدوار العليا من أبنيته، كان قد غيَّر كلمات الأغنية الأصلية «قلبى، حبها، قلبها، عقلى»، واستبدلها بمفردات فاضحة تشير إلى الأماكن الحميمة من الرجل والمرأة، وكانت هناك جوقة من أصوات تشابه نبرة ذلك الصوت المنفرد تردد وراءه ما ينتهى من إطلاقه.
. لم أصدق ما أسمعه فى هذا الوقت وهذا المكان من فُحش علنىٍّ، لأننى مع تفهمى للرغبات الجامحة فى الضحك والتنكيت «الأبيح» لدى شعبنا ومعظم شعوب الأرض، أدرك أن هناك حدوداً بديهية لما يقال، وكيف، ومتى، وأين يقال. ثم إننى أعتنق بقناعة مطلقة أن «تاريخ الحضارة البشرية هو تاريخ ضبط النفس»، فالنفس الإنسانية قارة ليست مُكتشفة تماماً، وبها أدغال وأحراش، وبها فجور وتقوى، وما جوهر الديانات السماوية كلها، والوضعية، ودعوات المصلحين، إلا مجاهدات لتزكية التقوى وتحجيم الفجور، كما أننى أعتقد أن الحياء شرط من شروط استمرار الحياة، وفى المقابل أعتقد أن تفشِّى قلة الحياء معول من معاول هدم الحياة، وتهديم الدول. ولعل ذلك كله كان وراء ترويعى مما أسمع، فاندفعت لفتح النافذة وأطللت لأرى مَن هم وراء هذا الفُحش العلنى، فى حى به سبع مدارس خاصة مرموقة ومدرستان قوميتان إحداهما للبنات، إضافة إلى أربع سفارات، وقنصلية دولة كبرى، ومدرسة لجالية أوروبية. وكانت الصاعقة أن مُشوِّه الأغنية لم يكن إلا مجرد فتى صغير من تلاميذ المدرسة الإعدادية القريبة، يقف عند الناصية، وحوله جوقة من تلاميذ فى مثل عمره، غالباً من مدرسته، كانوا منتشين وفرحين بابتكارهم الفاحش، يكررونه بحماس وضحك وتمايل وتقافز، والأغرب أن الحياة كانت تمضى من حولهم بزخمها المعتاد، وكأن شيئاً غريباً لا يحدث، سيل السيارات يتدفق، والماضون إلى مدارسهم وسفاراتهم وأشغالهم لا تنُدُّ عنهم غير التفاتات صغيرة، إذا التفتوا. وقبل أن يدق جرس المدرسة التى رجَّحت أن هذه «الفرقة» تنتمى إليها، مضى البوق الصغير وجوقته، يشقون طريقهم بين زحام السيارات والبشر، مرددين ما كانوا يرددونه من خدشٍ زاعقٍ للحياء، ولكن فى شكل هتافات مدوية لمظاهرة صغيرة، شديدة الابتهاج بما تقدمه من استعراء فاضح، ليلحقوا بطابور الصباح!
لست قديساً، وليست لدىَّ أية أوهام مثالية عن حدود تهذيب الإنسان عندما تتاح له فرصة الانفلات، لكننى مرتعب من اتساع عدم الاستحياء العلنى من قلة الحياء، وقلة الحياء التى أعنيها ليست وقفاً على إشاعة البذاءة فى الشوارع وغير الشوارع، فالبذاءة صارت أطيافاً عديدة على ضفتى الانقسام الجزئى الحاصل فى مجتمعنا، ويكفى أن ترى السوقة والدهماء الذين يحتلون نوافذ إعلامية يبتزون ويستبيحون ويشوهون من خلالها من يخالف مُشغِّليهم وحُماتهم «هنا»، ومثلهم فى نوافذ إعلامية تدَّعى أنها النقيض وتبث سوقيتها وعدوانيتها المأجورة والمدعومة من «هناك». وهؤلاء وأولئك مصريون! وقس على ذلك الكثير، من عربدة الفظاظة والرعونة على الطرق، إلى عربدة القتلة والمنتحرين باسم الدين، وعربدة منتهكى كرامات الإنسان باسم الوطن. وكلها ــ فى واقع ملغوم داخلياً وعربياً وعالمياً ــ ممارسات أخطر ما تكون على دولة وطنية مُنهَكة، يُراد بها الشر من كل صوب، ويظل أشر الشرور أن تفقد أخلاقها، فتفقد ــ دون أية مبالغة ــ معركة البقاء.
. لقد صارت انحدارات الأخلاق وتشوهات القيم فاقعة الحضور، وكثيراً ما يحدثنى أستاذى الدكتور أحمد عكاشة، ويحدث الناس، عن ضرورة العمل على إصلاح الأخلاق واستعادة القيم، وأنا أُصدِّق صدق انشغاله الإنسانى والعلمى بهذه المسألة المحورية فى بقاء الأمم أو فنائها، لأنها فى متن أستاذيته لعلم أوثق ما يكون بالسلوك الإنسانى، كما أنها فى متن تكوينه وسلوكه الشخصى، كواحد من أكثر المصريين تحضراً وتهذيباً، ولست مبالغاً إن قلت إنه أحد أكثر الأطباء النفسيين الكبار فى العالم سوية، ولا يزال يدهشنى تواضع وبساطة هذا النجم الساطع فى مجاله وفى حياتنا، أما حنو المحبة الذى يشعرنى به كلما تكرم علىَّ باتصال أو دعوة للقاء، فهو من جوائز الحياة الثمينة التى أعتز بها وبها تتطامن نفسى. كما أن هذا الرجل البصير الكبير فى التخصص الذى أنتمى إليه، كان ولايزال ثاقب النظرة، عندما لم يوجه الدعوة لى للانضمام إلى جهود دراسة قضية القيم والأخلاق فى راهننا وبلدنا، لأنه ــ وقد شخَّص بالتأكيد تركيبتى بدقة ــ عرف أننى من ثلث البشرية الذى يكون الواحد منهم فى أفضل أحواله عندما يُترك لشأنه، يعمل منفرداً، وبنداءات من داخله، بعيداً عن أى مجموعة، أو سُلطة علمية أو ثقافية أو سياسية، أو حتى صُحبة. ومن مردود هذا الكرم، أجدنى أعود للكتابة التى انقطعت عنها لأكثر من شهر، بادئاً بموضوع تردى القيم والأخلاق، لا كباحث أو مصلح، ولكن كمُتحيِّر!
من أين يأتى الانحطاط السلوكى، بكل التظاهرات التى ذكرت بعضها ولم أذكر الكثير، فردياً وجماعياً، شعبياً ومؤسسياً؟ أسأل نفسى، فتتبادر إلى ذاكرتى، كممارس سابق لطب النفس والأعصاب، حالات فقد الحياء التى تنتاب بعض المرضى العقليين وبعض مرضى إصابات المخ، وكيف أن انهيار آليات الانضباط والتحكم فى العقل خلالها، يطلق المكبوح فى النفس الإنسانية، خاصة ما يتعلق بالجنس، حتى لقد أوشكت أن أقول مع فرويد «إن البشر ظواهر جنسية»، لكننى مع الانتباه إلى شطح تعميمات وتفنينات فرويد، نبذت اليقين فى زعمه أننا مجرد «ظواهر جنسية»، خاصة أننى من قُراء «إيريك فروم» الذى أخذ «الحب» بما فيه من حميمية جسدية، إلى مُرتقى أسمى وأبقى هو «الحب المُنتج» - على حد تعبيره، أو «الحب المُستدام» كما يروق لى أن أسميه. وبالرغم من شكى فى أن أنسجة المخ وحدها، وما فيها من دوائر عصبية، هى الكابح أو المُطلِق لقلة الحياء، فإن هناك حالة تُعتبر من أشهر الحالات فى تاريخ طب الأعصاب والأمراض النفسية تفرض حضورها علىَّ كمدخل لهذا العالم الوعر الذى أفكر فى استكشاف ما يمكن من دروبه وكروبه، لكننى وبينما أراجع ما توافر لدىَّ من مصادرها الأحدث، أكتشف فيها وبها، ما لم أكن منتبهاً إليه من قبل، وإن كان يصب قطعاً فى هَدى الحيرة، التى سأظل أطرح سؤالها على نفسى وعلى غيرى: من أين يجىء الانحطاط؟
. الحالة عنوانها واسم بطلها «فيناس جيج» Phineas Gage، كان رئيس عمال أو مقاولاً صغيراً فى الخامسة والعشرين من عمره، يعمل مع شركة تمد خطوط السكك الحديدية فى برارى ولاية فيرمونت الأمريكية. وكان طبيعياً أن يُستخدَم الديناميت فى تفجير الصخور المُعيقة لتفتيتها وإزاحتها عن الطريق المرسومة لمد الخط المطلوب تنفيذه.
وفى حوالى الساعة الرابعة والنصف من عصر يوم 13 سبتمبر 1848 راح فيناس يحشو بقضيب من الحديد وزنه ستة كيلوجرامات وقطره 3.2 سنتيمتر وطوله 1.1 متر، مسحوق الديناميت فى حفرة بالصخر. وبينما كان يعود برأسه من التفاتة سريعة من فوق كتفه اليمنى أولاها للعاملين معه، أخطأ طرف القضيب الحفرة وضرب الحافة الصخرية فأحدث شرارة التقطها الديناميت وانفجر وقذف الانفجار النارى به مطروحاً على الظهر وقد أخذت أطرافه تتشنَّج فى انتفاض.
هرع العمال إلى رئيسهم فوجدوه ملفوح الوجه واليدين بوهج النار التى برقت مع الانفجار. ولفت نظرهم جرح مخيف فى خده الأيسر وما يشبه القمع الدامى عند قمة رأسه. أما القضيب فقد وجدوه ملقى على الأرض على مبعدة اثنى عشر متراً منه، مغموساً بالدم وملطخاً بعوالق بيضاء ورمادية لم يعرفوا حينها أنها كانت من مخه. كان واعياً بما يحدث حوله، بل يتذكر ما حدث له وكيف قذف به الانفجار بعيداً بينما كان القضيب الحديدى يطير بسرعة رصاصة ليخترق بطرفه العلوى خده الأيسر ويخرج من قمة دماغه.
بمعاونة طفيفة أنهض العمال «جيج» فمشى معهم نحو عربة يجرها ثور، صعد إليها دون مساعدة وجلس فى مكانه يقظاً منتصباً حتى بلغ مكان الفندق الذى يقيم فيه طبيب البلدة «إدوارد ويليامز» بعد نصف ساعة من وقوع الحادث. لم يصدق ويليامز رواية المريض الذى أخبره أن قضيباً حديدياً دخل من خده وخرج من رأسه. لكن عندما نهض «جيج» فى نوبة غثيان وتقيأ، اندفعت من رأسه مع شدة التقيؤ قطعة من مخه تملأ نصف ملعقة. ويبدو أن طبيب البلدة أدرك أن الحالة تتطلب أكثر من خبرته، فلجأ مع مريضه إلى طبيب فى المدينة يُدعى «جون مارتين هارلو»John Martyn Harlow.
. نظف هارلو الجرح ـ تبعاً لروايته هو نفسه ــ مزيلاً من حوله تخثرات الدم وفتات المخ وشظايا العظام. بل مد أصبعه فى عمق الجرح ليزيل أية بقايا من عظام الفك وقاع الجمجمة يمكن أن تكون منغرسة فى نسيج المخ. وبالفعل أخرج قطعتين كبيرتين من عظم الفك المُحطَّم كانتا هناك، ثم طهر الجرح وضمده ووضع رأس «جيج» فيما يسمى «طاقية الليل» nightcap التى كانت مخصصة لوقاية الرأس فى مثل هذه الإصابات. كما طهَّر جرح الصدغ وطبَّب حروق الوجه واليدين، وأوصى المريض أن يُبقِى رأسه مرفوعاً. وفى ساعة متأخرة من ذلك المساء لاحظ الدكتور «هارلو» أن المريض «كان رائق الذهن وإن كانت ساقاه مضطربتين يمدهما ويثنيهما بتبادل ودون توقف كما لو كان يدير طاحونة تعمل بالقدمين. ولم يُبد رغبة فى رؤية زملائه، مُبرِّراً أنه «سيراهم عندما يعود إلى العمل بعد بضعة أيام».
لكنه لم يعد. طالت نقاهته وبرغم تعرُّفه على أمه وعمه القادمين من بلدة أخرى، إلا أنه فى اليوم الثانى من وقوع الحادث فقد وعيه وصار يهذى. يومان وعاد إلى رشده وتعرف على أصدقائه. وبعد أسبوع من التعافى دخل فى حمى هدَّت قواه وجعلته لا يتكلم إلا نادراً، ثم تعمقت غيبوبته وبدأت عينه اليسرى تجحظ مع خروج أنسجة وسوائل داكنة كريهة الرائحة من جرح رأسه. صار يرفض الطعام وتدهورت حالته حتى إن أصدقاءه توقعوا قرب وفاته فأعدوا له تابوتاً ومستلزمات للدفن.
الدكتور «هارلو» أدرك أن ثمة خُراجاً فى المخ وتعامل مع الحالة بكفاءة شهد بها كبار أطباء زمنه. عُزى له إنقاذ حياة «جيج» الذى غادر فراشه واستطاع أن يمشى فى الشارع وطلب العودة إلى بيت أهله. حينها كتب «هارلو» تقريراً موجزاً عن الحالة وبه جملة أخيرة مثيرة للشك: «إنه فى طريقه إلى التعافى، إذا كان من الممكن السيطرة عليه». فيما بعد أفصح «هارلو» عن مكنون الجملة المتحفظة فى ذلك التقرير، وقال فى إفصاحه:
. «يبدو أن التوازن أو التعادل بين قواه الفكرية والنزعات الحيوانية الطبيعية داخله قد تحطم. فهو يتعرض لنوبات من التشنج، ولا يُوقِّر أحداً، وينخرط أحياناً فى نوبات من إطلاق ألفاظ قبيحة جداً، مما لم يكن معروفاً عنه قبل الحادث، ولا يبدو لديه أى قدر من الاحترام لمن حوله، ولا يتحمل محاولات تهدئته حين يثور لعدم تلبية رغباته، يبدو أحياناً عنيداً ومتصلباً، وأحياناً غريباً ومتعاوناً، يضع كثيراً من الخطط لعمليات مستقبلية، سرعان ما يهملها وينتقل إلى خطط جديدة، وهو طفل من حيث قدراته الفكرية وتصرفاته، ويمتلك قدراً مماثلاً لما تملكه الحيوانات من العاطفة بوصفه رجلاً».
باختصار، تحول الإنسان الذى كان يوصف قبل الحادث الذى تعرض له بأنه «متوازن جداً ذهنياً»، وينظر إليه من يعرفونه على أنه رجل أعمال ذكى وبارع ونشيط ومثابر فى تنفيذ خطط العمل التى يصوغها بنفسه، إلى عكس ذلك كله، حتى إن أصدقاءه ومعارفه صاروا يقولون عنه: «إنه لم يعد جيجا». صار شخصاً آخر، وقحاً، بذيئاً، مهملاً، سيئ السلوك! بعد ذلك لم يُعرَف الكثير عن حياته، وإن تردد أنه عمل سائق عربة بحصان لعدة سنوات فى بلدة والديه التى عاد إليها، ثم ظهر فى تشيلى عام 1859 حيث تدهورت صحته وعاد للعيش مع والدته، ثم توفى فى سان فرانسيسكو عام 1860 بعد معاناة تشنجات عنيفة ترتبت على إصابة دماغه قبل اثنى عشر عاماً.
. قصة ذلك الانحدار السلوكى لـ«جيجا» الذى لم يعد «جيجا» بعد إصابة فادحة أطاحت بجزء من مخه شمل الفص الجبهى الأيسر كاملاً، تحولت إلى عنوان سؤال كبير فى طب الأعصاب ودراسة المخ فى القرن التاسع عشر، فدماغ «جيج» لم يتم فحصه بعد وفاته، لكن فى عام 1867 تم إخراج جثته وأُرسلت جمجمته بموافقة أمه وأقاربه إلى الدكتور «هارلو»، «لصالح البحث من أجل صحة الإنسان»، ومن ثم عُرضت مع القضيب الحديدى الذى اخترقها فى متحف «وارن» للتشريح بكلية الطب بجامعة هارفارد، وقد تسبب «الانحطاط الأخلاقى نتيجة التدمير الواضح للفص الجبهى من المخ عند جيج»، فى حفز الاجتهادات الطبية التى ربطت بين هذا الفص و«إدراك الضوابط الاجتماعية»، وهو مما صار معترفاً به فى القرن 19 بين أطباء الأعصاب. وكان أحد الباحثين الرواد فى هذا الوقت هو الدكتور «ديفيد فيرير»
طبيب الأعصاب الأسكتلندى الذى أجرى بحوثاً تجريبية واسعة النطاق على وظائف مناطق المخ المختلفة، وفى عام 1878، أى بعد حادث «جيج» بثلاثين سنة، أعلن «فيرير» فى محاضرة للكلية الملكية للأطباء بلندن، أن تجاربه على قرود المكاك أظهرت أن الأضرار التى تلحق بالفص الجبهى من المخ ليس لها أى تأثير على القدرات البدنية للحيوان، ولكنها جلبت له تغيرات واضحة فى الشخصية والسلوك، وكان فيرير من أجل إثبات مزاعمه قد أعاد جراحياً إحداث إصابة مخ فينيس جيج فى أمخاخ القردة، وقد توسع من قبل فى إجراء تجارب مماثلة فى أمخاخ كلاب وأرانب وفئران لرسم خريطة المناطق المسؤولة عن الحركة والحس فى المخ، مما أهاج المدافعين عن حقوق الحيوان عليه، لكن يبدو أن تجاربه على أمخاخ القِردة التى منحته شهرة «عالم أعصاب تجريبى عظيم» وكرَّمته «زميلاً للجمعية الطبية الملكية» وهو فى الثالثة والثلاثين من عمره، جعلته يتهور، فيُعلن أن خريطة مناطق الحس والحركة فى المخ التى حصل عليها من تجارب الحث الكهربى والجراحات التجريبية على أمخاخ القردة، تنطبق على خريطة مناطق الحس والحركة فى مخ الإنسان. وكان ذلك خطأً جسيماً انكشف مع أولى محاولات تطبيقه جراحياً، كما أن مجموعة من أطباء الأعصاب الإنجليز عام 1884 أمكنهم عن طريق الخبرات المتأتية من الفحص السريرى الدقيق للمرضى تحديد أماكن الأورام والإصابات فى المخ طبقاً لما تسببه هذه الأورام والإصابات من أعراض حركية وحسية، ولايزال هذا الأسلوب متبعاً حتى اليوم رغم التقدم الهائل فى تقنيات التصوير الطبى.
. لقد انتهى القرن 19 دون أن ينتهى الجدل حول فرضية التدهور الأخلاقى لفيناس جيج بسبب الإصابة الجسيمة التى أطار فيها قضيب تفجير الديناميت جزءاً من مخه. كما استمر هذا الجدل بحثياً ونظرياً على امتداد القرن العشرين، ولا يزال مستمراً بينما نقترب من نهاية العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. لكن هناك الآن معطيات جديدة يمكن ألا تكتفى بحسم الجدل، بل قد تنسف قصة فيناس جيج من جذورها. وإلى هنا، وحتى استئناف جديد لأسئلة قضية الحياء وقلة الحياء، أو الحيا وقلة الحيا ــ بعد جواز تخفيف الهمزة المفردة وبقاء فصاحة الكلمة ــ فإننى أستعيد العنوان الذى فكرت أن أضعه لهذا المقال وعدلت عنه، وهو «أسياخ فى الأمخاخ»، لأنه يشير إلى ما كنت أهجس به حول الموضوع، وصار يقيناً، أن القضيب أو السيخ الذى اخترق جمجمة فيناس جيج وخرَّب جزءاً من مخه فانحط سلوكه، ليس إلا احتمالاً واحداً لأسياخ مادية ومعنوية عديدة، تخترق الأمخاخ والنفوس والأرواح، فتطيح بأجزاء ثمينة منها، تُدمِّر الحيا، وتنشر قلة الحيا.