أعترف، بداية، بصعوبة مفاوضات سد النهضة.. وأننا بالفعل نلعب فى الوقت الضائع.. وفقدنا معظم الأوراق، رغم أن الملف الآن فى يد رئاسة الجمهورية.. وتختص وزارة الرى بالجانب الفنى.. وتختص وزارة الخارجية بالسلوك الدبلوماسى وربما بالقانون الدولى.. وتختص أجهزة المخابرات، بنوعيها، بالأمن القومى الداخلى والخارجى.. وتختص رئاسة الجمهورية بالعلاقات بين الدول.. ولهذه اللجنة الجماعية بكل ما يتعلق بملف هذا السد.. وتبحث كل الاحتمالات، وإيجابيات وسلبيات كل احتمال.
وبسبب هذا الموقف شديد الحساسية تكاد المعلومات تكون هى ما تتناوله أجهزة الإعلام.. وتكاد تكشف الجوانب السلبية.. وهذا يؤدى إلى تباين المواقف حول حل هذه القضية الخطيرة.
وآخر ما يتردد - وأدعى أننى متابع جيد ليس فقط لقضية هذا السد.. ولكن لكل ما يتعلق بالنيل - أقول آخر ما تردد هو اقتراح مصرى يطلب من إثيوبيا زيادة الفتحات أسفل السد لتسمح بمرور كميات أكبر من المياه!! ثم ما انفردت به جريدة «المصرى اليوم» من رد الشركة الإيطالية المسؤولة عن بناء السد من أن الاقتراح المصرى بشأن تخصيص فتحتين للطوارئ يستحيل تنفيذه.. وأن التصميم الحالى هو النهائى للسد.. ولن يتم إجراء أى تعديلات عليه.. بل وقال الرد إن السد سوف تنتهى إقامته خلال 6 أشهر، أى - أعتقد - أن تخزين مياه النيل الأزرق سوف يبدأ مع موسم الفيضان القادم.
وقد ناقشت فكرة هذه الفتحات مع الدكتور محمود أبوزيد، وزير الموارد المائية السابق، ونحن فى طريقنا إلى أسوان صباح يوم الأحد الماضى، وسألته - وهو الخبير العالمى - هل هذا الاقتراح يمكن تنفيذه.. ورد أطول وزراء الرى عمراً - فى الوزارة - بأن هذا أمر ممكن فنياً، وقلت: ألا يؤثر ذلك على أساسات السد.. وعلى أى ارتفاع يمكن أن تكون هذه الفتحات؟.. رد الوزير السابق قائلاً: إن الأمر لن يصل إلى عمق الأساسات، بل فى منسوب متوسط بما لا يؤثر على الأساسات.. ولكنها تسمح بعبور كميات مياه أكبر.
وللحقيقة توقفت طويلاً أمام فكرة هاتين الفتحتين.. وسألت نفسى: هل وصلنا إلى هذا الحد؟ ولكننى لم أجد حلاً أفضل - حتى الآن - أمام الطرفين.. وبالذات بعد أن أصبحنا أمام الأمر الواقع.
ولكننى أقترح حلاً آخر هو: لماذا لا تفتح إثيوبيا ممراً ثانياً - بعيداً عن جسم السد - يعنى تحويلة جانبية تتجه إليها كميات إضافية من مياه النيل الأزرق.. وتمر بعيداً عن السد وأيضاً عن مساقط المياه فوق توربينات توليد الكهرباء.. وهنا نحقق المبدأ القائل: لا ضرر.. ولا ضرار.. أى تستكمل إثيوبيا سدها.. مع السماح - من خلال قناة أخرى جانبية - بمرور كميات من مياه النهر.. فلا تضار إثيوبيا.. ولا تضار مصر أيضاً، أى يصبح السد موقعاً لتحقيق الحلم الإثيوبى فى التنمية وتوليد الكهرباء.. وأيضاً حتى لاستخدام مياه النهر فى الزراعة والرى مادامت إثيوبيا - من خلال هذه القناة الإضافية - لن تسبب أضراراً لمصر.. وبالتالى تمضى فى مشروعها التنموى، ليس فقط من خلال سد النهضة على النيل الأزرق.. أو سد تاكيزى على نهر عطبرة.. رغم أن إثيوبيا عندها 12 نهراً آخر.. فضلاً عن كميات الأمطار التى تسقط على أراضيها وهى 1660 مليار متر مكعب من المياه.. وأين حصة مصر - وهى 55.5 مليار متر - من كميات هذه الأمطار؟
وإذا كانت إثيوبيا، فنياً، تخشى أن يهدد فتح الفتحتين الإضافيتين جسم السد، وربما هذا ما ترفضه الشركة الإيطالية المنفذة بما قد يضيف أعباء مالية على المشروع.. وهنا أقترح أن تتقاسم الدول الثلاث «إثيوبيا والسودان ومصر» تكاليف حفر أو إنشاء القناة الجانبية التى أقترحها لتدور حول جسم السد.. ثم تعود لتصب مياه النهر فى المجرى الطبيعى بعده، مع ما يخرج من فتحات توليد الكهرباء فى جسم السد.
وهنا يمكن أن تساهم فى تكاليف هذه القناة - التى هى قناة تحويل لحصة من مياه النهر - الدول الأفريقية من دول حوض النيل، أو من دول الاتحاد الأفريقى.. وكذلك بنك التنمية الأفريقى.. وربما أيضاً دول الاتحاد الأوروبى وغيرها حتى لا يتحول هذا السد - بشكله الحالى - إلى بؤرة إزعاج، يهدد الأمن الدولى فى هذه المنطقة شديدة الحيوية من العالم.
وهذا الاقتراح أقدمه قبل الاجتماع السداسى المقرر أوائل فبراير القادم بالخرطوم.. وأقدمه أيضاً للجنة القومية المصرية التى تتولى الآن قضية ملف سد النهضة.. أقول ذلك لأن إثيوبيا لن تسمح بأى مشاركة مصرية أو مصرية سودانية فى إدارة العمل بالسد، بعد أن يكتمل.. لأن ذلك يعد تدخلاً فى الشؤون الداخلية لإثيوبيا.. وأقولها بكل صدق إننى أطالب كل خبراء الرى والنيل المصريين، وهم كفاءات وقدرات عالمية فى أمور الأنهار، وليس فقط أمر سد النهضة، وفى مقدمتهم كل من تولى - فى السابق - أمر ملف مياه النيل، وفى مقدمتهم الدكتور عبدالفتاح مطاوع.. الذى يعرف كل أسرار هذا السد عندما كان رئيساً لقطاع مياه النيل، ولسنوات طويلة.. لأن وزراء الرى السابقين قد يكون مجرد الاستماع إلى آرائهم، غير مقبول نفسياً الآن، رغم أن رأيهم الفنى مطلوب بالفعل.. الآن بالذات.
ويبقى إذا كانت إثيوبيا - ومن خلال الشركة المنفذة - رفضت الاقتراح المصرى، فليس هناك مفر من أن نقترح ما يمكن أن يحل المشكلة بما لا يوقف الحلم الإثيوبى فى التنمية، رغم أن هذا الحلم أكبر بالفعل من الاحتياجات الحقيقية لها.. وأيضاً بما لا يسبب كارثة لمصر وللسودان معاً.. أو لمصر على الأقل.
وحتى لا نرفع أيدينا إلى السماء ونحن ندعو.. ونطلب ونهتف من كل قلوبنا.. فتحة فى السد.. يا أولاد الحلال.. أو ننتظر تكرار كارثة سد مأرب التاريخى التى كانت وراء تهجير كل أبناء اليمن.