بمكتب صديقنا رجل الأعمال المحترم دكتور أحمد بهجت، التقيت مُصادفة بالسفير الإثيوبى محمود درير.. الذى يسعى ويذهب بنفسه إلى رجال الأعمال باحثاً عن جذب استثمارات لبلاده!!
وبالمناسبة، الدكتور أحمد بهجت من المصريين الذين لهم فى دول منابع النيل باع طويل، وصداقات بأعلى المستويات، يجب علينا استغلالها لحماية مصالحنا هُناك!!
فى بداية اللقاء لا أخفى أننى ظللت صامتاً، وفيلم بناء السد يمُر أمامى.. وشكل «المحبس» الذى سيتم تركيبه «لأول مرة فى التاريخ» لحجز تدفقات النيل، وآثاره الخطيرة على حياة الأجيال القادمة من المصريين يخنقنى بل يرُعبنى!!
خلال ساعتين من الحديث بالعربية التى يُتقنها سيادة السفير وبالفرنسية التى تعلَّمها أيضا، عرفت أنه كان وزيرا فى حكومات سابقة، آخرها وزيرا للثقافة قبل تعيينه سفيرا بالقاهرة.. وقبل نهاية اللقاء سألته:
«المفاوضات» إلى متى وإلى أين؟
فقال بدبلوماسية: «لا ضرر ولا ضرار».. واتفقنا على أن الحل هو: تبادل المصالح الاقتصادية حتى تتشابك بين الشعوب. فهى الضمان الوحيد لتفادى أى صراع فى المستقبل (لكن فى تقديرى أنه حتماً سيشتعل يوماً) عندما يصل عدد سكان إثيوبيا 350 مليونا، ونفس العدد فى مصر قبل نهاية هذا القرن)!!
فى الطريق تذكّرت عندما كنت مُقيما فى فرنسا بالثمانينات والتسعينات، «الصورة الذهنية» التى كانت سائدة وقتها عن الفقر والتخلف فى إثيوبيا.. عن المجاعات والأطفال الذين ماتوا بالملايين.. وكيف كان الخواجات يقيمون الحفلات لجمع المساعدات، والجمعيات الخيرية فى أوروبا تُرسل المعونات من الملابس المستعملة بالبالات!!
سألت نفسى كيف استطاعوا فى عشر سنوات، أن يطمحوا فى أن يُصبحوا نمرا أفريقيا؟.. بعد أن وصلت نسبة النمو إلى 11% مصمِّمون على أن تصل لـ 15% سنويا (ليصبحوا أولى دول العالم فى نسبة النمو والتنمية) مما جعلهم يمضون فى بناء السد بارتفاع 145 متراً، وبطول الحاجز1800 متراً!!
عُدت لمنزلى أقرأ عن إثيوبيا «وتجربتهم» التى تعتبرها بعض المؤسسات الدولية «مُعجزة اقتصادية».. رغم أن مساحة إثيوبيا تعادل مساحة مصر، بعدد سكان يقاربنا 93 مليون نسمة.. ليس لها شبر واحد على البحار.. والنظام فيها على قائمة النظم الاستبدادية، فهى (تحتل رقم 118 من 167 دولة) وهى دولة الحزب الواحد!!
صحيح أنها أغنى الدول الأفريقية فى احتياطى المياه. وتُسهم الزراعة بنص الناتج المحلى.. وهى الأولى فى أفريقيا فى إنتاج البُن، وعاشر دول العالم فى إنتاج الماشية، وتُصدِّر الذهب والجلود والبذور والبقوليات (مصر تستورد منها 90% من الفول) !!
والآن تطمح فى غزو أسواق العالم بالزهور، وتستعد بخطط للعامين القادمين أن تصبح من أولى دول العالم فى تصدير نباتات الزينة والورود، بعد أن أصبحت الثانية فى أفريقيا بعد جارتها كينيا!!
المُدهش أنهم حققوا «القفزة» الاقتصادية الكبرى، والنقلة النوعية المبهرة.. لمجرد أن مجلس نوابهم أصدر«قوانين عصرية لدولة حديثة».. كان أهمها قانون «موحَّد للاستثمار» و«شباك واحد للمستثمرين»، يتبع لجنة الاستثمار الإثيوبية «E I C».. فأصبح عندهم مكان واحد تحصل منه على: رخصة استثمار- تصريح إقامة - وتخصيص الأرض حسب النشاط.. ولذلك فى عشر سنوات جذبوا المليارات من الدولارات!!
الجديد أن الحكومة هناك الآن لاستدامة التنمية.. تسعى وتدعم وتُـشجِّع وتبحث عن كل من يستثمر فى الصناعة بالذات.. لماذا؟
لأن هناك طبقة متوسطة بدأت تتكوَّن وتتَّسع، وتحتاج إلى مقومات الحياة العصرية من أجهزة كهربائية وإلكترونية، وهذا يُحقق لهم الهدف من خلق الملايين من فُرص العمل!!
أيضا فى الزراعات الحديثة والتصنيع الزراعى والتصدير جذبوا عشرات من كبرى الشركات متعددة الجنسيات من كل القارات.. خاصة بعد أن فشل نظام البشير فى القضاء على البيروقراطية والروتين، وعم الفساد فى السودان.. فهرب المستثمرون الأجانب والعرب إلى إثيوبيا!!
الخلاصة أن «قانون» الاستثمار الموحَّد، والشباك الواحد مع حزمة تشريعات.. نجحت فى جذب استثمارات محلية وعربية وأجنبية بالمليارات خلال السنوات العشر الفائتة، ليصبحوا الدولة الأولى عالميا فى نسبة النمو البالغ 11%.. والتنمية هناك الآن لا تخطئها عين.. وهذا ما جعلهم يستهينون بنا، ويضربون عرض الحائط بأى اتفاقيات كان تحمى «حقّنا فى الحياة» من المياه (بعد أن كانوا يرتجفون من أجهزتنا الأمنية ويعملون لنا ألف حساب)!!
اُكرر أن هذه التجربة تقول لنا إن أردنا الخروج من (خنقة) عُنق الزجاجة.. فلا حل إلاَّ بحرق غابة القوانين والقرارات الوزارية واللوائح البالية، وإصدار تشريعات جديدة طبقا لمواد دستورنا المركون على الرف بأقصى سرعة ممكنة.. وهذه هى مهمة مجلس النواب ولجنته التشريعية.. على أن نضع جدولاً زمنيا لخروج حزمة قوانين يومية، وإن لم يحدث، واكتفينا بإصدار قانون واحد يوميا. فمعنى ذلك أننا سنحتاج 76 سنة قادمة!!
السؤال: هل نتعلم من تجربة إثيوبيا (ونُصدر حزمة قوانين تُنقذنا مما نحن فيه) أم سنظل هكذا نمصمص شفاهنا، ونلطم خدودنا، ونندم على ما فاتنا، ونُهدر كنوزنا ومواردنا وإمكانياتنا؟؟
الكرة الآن بملعب السادة النواب.. إمَّا أن نرفع لهم القُبعة..أو «نحدِّفهم» بالبيض الفاسد!!