مثل كل مواطن مصرى، يبدو د. عبدالمنعم سعيد منزعجا للغاية من الإرهاب، ولكن القلق لا يمتد إلى الفشل الفاضح والمتواصل فى مكافحته، بل تمدده، بسبب أعمال القمع التى تدفع الناس للتطرف، وأن تجد فى العنف والإرهاب وسيلة للانتقام، بينما يرتفع منسوب الانزعاج إلى الذروة لدى الدكتور بسبب اهتمام منظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية بالوضعية المزرية لآدمية الإنسان فى مصر. حتى ليبدو وكأن الدكتور لا يُقلقه القتل المجانى لمواطنيه فى الشوارع والسجون وأقسام الشرطة، وشيوع التعذيب والاختفاء القسرى، وسجن عدد كبير من زملائه الصحفيين والأكاديميين والنشطاء السلميين، وتكميم أفواه عدد من أبرز الإعلاميين. لكن ما يُقلق الدكتور هو ذلك الاهتمام الذى يظنه «مبالَغا فيه» من منظمات حقوق الإنسان. من ثَمَّ يبحث عن تفسير لهذا الاهتمام «الغريب وغير المبرر» من وجهة نظره. يتذكر د. عبدالمنعم، فى مقاله، بتبجيل كبير مستحق، التحاقه منذ 30 عاما بخلية لمنظمة العفو الدولية فى مصر، وذلك فى مهمة إنسانية نبيلة، للدفاع عن حقوق الإنسان فى دولة أخرى. حينذاك لم يسأل الدكتور نفسه عن سبب الاهتمام «المبالَغ فيه» من منظمة العفو بهذه الدولة، بل اعتبر انتهاك حقوق الإنسان فى هذه الدولة سببا كافيا. بعد 30 عاما مازالت منظمة العفو فى ذات المكان تواصل مهمتها الإنسانية النبيلة فى جميع دول العالم، ما تغير فقط هو موقع د. عبدالمنعم، وعدد الذين يتهمون المنظمة العريقة بـ«أجندة خفية».
مشكلة د. عبدالمنعم مع مركز القاهرة والمنظمات الحقوقية المستقلة فى مصر لها أبعاد إضافية، إذ يتهم الدكتور- بلا سند- هذه المنظمات بالتسيُّس والانخراط فى الحركة السياسية، لمجرد أنها تنتقد سجل الحكم الحالى فى حقوق الإنسان، بينما لو أنفق الدكتور بضع دقائق من وقته فى مراجعة مواقف مركز القاهرة، خلال حكم مبارك والمجلس العسكرى والإخوان المسلمين والحكم الحالى، لتأكد من أن المركز قد اتبع ذات المعايير معهم جميعا، بل إنه شارك مع منظمات أخرى فى إصدار بيان يدين مزاعم تعذيب نُسب للمتظاهرين فى ميدان التحرير ارتكابها فى الشهور الأولى للانتفاضة. وبدأ حملته الخاصة بحقوق الإنسان تحت حكم الإخوان المسلمين، فور خطاب تنصيب محمد مرسى رئيسا، وليس فى 30 يونيو، مثلما يظن الدكتور. أصارحك القول: لقد بلغ الحال للمرة الأولى منذ نشأة منظمات حقوقية فى مصر أنه لم يعد ممكنا الآن لمنظمات إصدار بعض تقاريرها المكتملة، لأن الثمن سيكون نهاية وجود هذه المنظمات، وبالتالى افتقار الضحايا المتزايد عددهم لمن ينقل أنينهم. للمرة الأولى أيضا يتلقى حقوقيون تهديدات بالقتل أو بتلفيق قضية تخابر، ومع ذلك كله، فإن الدكتور يشكو مما يعتبره «اهتماما مبالَغا فيه» بحقوق الإنسان. بالطبع من حق الدكتور ألا يهتم، ولكن عليه أن يكف عن لوم غيره، لمجرد أنه «يهتم» بنقل أنين الضحايا، حتى لو أدى ذلك إلى فقدانه حياته!
ولكن المشكلة تصير أكثر فداحة فى أطروحة د. عبدالمنعم، عندما يبرر دعوته إلى المنظمات الحقوقية للصمت على جرائم حقوق الإنسان، لأن الحكم الحالى مدعوم بـ«الغالبية الشعبية والقوات المسلحة». هنا ينتقل الدكتور فى واقع الأمر إلى دعوة صريحة لمركز القاهرة وكل منظمة حقوقية مستقلة عبر التاريخ إلى الانتحار، لا أقل من ذلك. فى ألمانيا النازية كانت «أغلبية الشعب وقواته المسلحة» مع هتلر، ولكن الحقيقة الأخلاقية والتاريخ كانا إلى جانب أقلية بدأت ضئيلة رفضت اتباع عقلية «القطيع»، ووقفت بجانب حقوق المضطهدين من المفكرين والأدباء والفنانين والشيوعيين واليهود والأقليات الأخرى. نفس القصة تكررت وانتهت لنفس النتائج فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى أوائل خمسينيات القرن الماضى فى فترة المكارثية. ثم تكررت أيضا فى أمريكا فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر. فى ذلك الوقت كانت «أغلبية الشعب» الأمريكى المخدوع بالصراخ الأعمى حول الإرهاب تقف خلف إدارة الرئيس جورج بوش و«القوات المسلحة» التى تقاتل الإرهابيين فى أفغانستان، وتبحث عن أسلحة نووية مزعومة فى العراق، قبل أن تسقط فى أيدى الإرهابيين. كان بوش يردد عبارة د. عبدالمنعم بكلمات أخرى: «مَن ليسوا معنا فهم ضدنا»، بينما كان للأقلية الأخلاقية فى أمريكا رأى آخر. لم يأبهوا باتهامهم بالخيانة ولا باتهامهم بـ«طعن جنود جيشهم فى ظهره وهو مازال يحارب الأعداء فى ميدان القتال». وقاموا بفضح الخطاب الديماجوجى المخادع، والأكاذيب التى تسعى لتوظيف مخاطر حقيقية للإرهاب، لتحقيق أهداف سياسية أخرى غير معلنة لـ«الأغلبية الشعبية». قاموا بفضح التعذيب فى سجنى أبوغريب وجوانتانامو وممارسات بشعة أخرى. فى ذلك الوقت كتب (واقع الحال أتخيل أنه كان يصرخ) كين روث، مدير هيومان رايتس ووتش- إحدى المنظمات التى يلومها الدكتور على الاهتمام «المبالَغ فيه» بآدمية المصريين- يشكو عزلة صوت الحقوقيين الأمريكيين فى مواجهة «الأغلبية الشعبية والقوات المسلحة» الأمريكية. قال روث: «لا أحد يريد أن يسمعنا.. الكل لا يريد سماع سوى صوت الأمن». منظمة أمريكية أخرى هى «حقوق الانسان أولاً»، توصلت إلى أن أفضل وسيلة لكسر حصار «الأغلبية الشعبية التى تقف خلف قواتها المسلحة» فى أمريكا هى أن تشكل فريقا من جنرالات الجيش الأمريكى المتقاعدين الداعمين لحقوق الإنسان، وأن يقوم هذا الفريق بحملة لتبصير الشعب الأمريكى بمخاطر الممارسات والسياسات المتبعة، خلال الحرب ضد الإرهاب، على حقوق الإنسان، بل والأمن القومى الأمريكى ذاته. تخيلوا معى للحظة ماذا يكون مصير أى حقوقى مصرى يحاول أن يطبق هذه الفكرة الآن فى مصر؟ عندما اعتزم الرئيس باراك أوباما لاحقا إلغاء عدد من القرارات وثيقة الصلة بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب التى كان قد أصدرها بوش، فإنه دعا هؤلاء الجنرالات «الحقوقيين» ليقفوا إلى جانبه عند توقيعه رسميا هذا القرار، تكريما لهم واعترافا بفضلهم. ثم جرى تعيين رئيس منظمة «حقوق الإنسان أولاً» مساعدا لوزير الخارجية لحقوق الإنسان، بينما مازال العار والمطالبات بالمحاكمة تلاحق وزير الدفاع الأمريكى حينذاك.
لنتخيل للحظة ماذا سيكون حكم التاريخ لو أن الأقلية الأخلاقية من المفكرين والصحفيين والأكاديميين والحقوقيين فى ألمانيا النازية وأمريكا- فى زمن المكارثية ورامسفيلد- وغيرهما من الدول، قد اتبعت نصيحة د. عبدالمنعم سعيد، لأن «الأغلبية الشعبية» تقف- فى لحظة عابرة مهما طالت- فى الجانب الخطأ من التاريخ؟
يوما ما ستلقى مهمات الدفاع عن آدمية الإنسان تقديرا مناسبا من المصريين وحكامهم، وبعض أكاديمييهم أيضا.