هذه قصة لا أنساها.. فلقد كنت فى روما ذات يوم، وكان ذلك منذ سنين، وكنا مجموعة من الزملاء، وكان معنا زميلنا شارل فؤاد المصرى، وكان هو القبطى الوحيد بيننا!
وفى أثناء حديث مع الجانب الإيطالى، جاء كلام عن المسلم وعن القبطى، وعما إذا كانت العلاقة بيننا تمثل مشكلة فى مصر.. وكان معنا المستشار عدلى حسين، فدخل مع الإيطاليين فى رهان خلال الجلسة، وكان واثقاً من أنه سوف يكسبه فى النهاية، وهو ما حدث فعلاً!
بدأ رهانه بأن أخبر الإيطاليين الموجودين على المنصة فى قاعة الجلسة بأن الوفد المصرى الموجود أمامهم يضم قبطياً واحداً، وأن بقية أعضائه مسلمون، وأنه يطلب منهم أن يخمنوا وأن يشيروا إلى القبطى بيننا، وأنه يتحداهم!
وكان عدلى حسين فى رهانه يريد أن يقول للإيطالى، وغير الإيطالى، إن المسلمين والأقباط فى البلد ممتزجون تماماً إلى الحد الذى لا تستطيع أن تفصل بينهم، ولا حتى تستطيع أن تميز أحدهم عن الآخر، وإن كل ما يقال عن الأقليات فى العالم لا ينطبق بأى صورة على الأقباط فى مصر، ولم يكن الرجل يبالغ، بدليل أنه كسب الرهان بسهولة.
وكانت المفاجأة أن الوفد الإيطالى الموجود فوق منصة القاعة، بعد أن ظل يتطلع فى وجوهنا، ويتأملها، ثم يتأملنا، قد أشار إلى كاتب هذه السطور، على أنه القبطى الوحيد فى الوفد المصرى!
ضج الزملاء بالضحك، بعد أن رأونى أذهب لإيطاليا مسلماً وأعود منها قبطياً، وبعد أن رأوا شارل المصرى يذهب قبطياً ويعود مسلماً، وكان المعنى فى القصة كلها أن الذين يراهنون على أن تمثل هذه الحكاية مشكلة فى مصر، فى أى يوم، واهمون ومخطئون، وأن قداسة البابا شنودة كان بليغاً للغاية عندما أوجز الموضوع كله فى عبارته الساحرة التى كان يرددها على الدوام، فيقول: نحن أقباط ديناً ولكننا مسلمون وطناً.
وكان هناك معنى آخر أهم فى تلك القصة المصرية - الإيطالية، وكان هذا المعنى هو أننا لابد أن ننتبه إلى خطورة أن نردد، دون وعى أحياناً، أن «عنصرى الأمة» لا يمكن لأحد أن يسعى بالوقيعة بينهما، لأن ما بينهما أقوى من أى محاولات للوقيعة.. لا.. لا يجب أن ننجرف أو ننساق وراء مثل هذا التعبير، لأن الحقيقة أن هذه الأمة عنصر واحد، لا عنصران أبداً.. وإلا.. فإن أى عنصرين يمكن أن يفترقا، ويمكن فى المقابل أن يلتقيا، وهو ما لا نعرفه نحن هنا.. إننا بلد واحد يعيش فيه عنصر واحد، لا عنصران، وهو عنصر لا سبيل إلى تجزئته، لأنه بطبيعة أصيلة فيه لا يقبل القسمة على اثنين، وقد باءت كل محاولات القسمة معه بالفشل التام، وسوف تبوء!