الحروب تبدأ دائماً من مستصغر الشرر، يتصور من يشعلها أنه قادر على إخمادها، ولا يدرك أن الشرارة الصغيرة التى يستهين بها، يمكن أن تتحول إلى حريق هائل، يلتهم فى طريقه الأخضر واليابس.
يحضرنى هذا التشبيه، وأنا أتابع التصعيد المتبادل فى المنطقة بين السعودية وإيران، خاصة أنه تصعيد ثأرى تمتد جذوره فى أعماق تاريخية ذات أبعاد طائفية، طالما أضرت الإسلام والمسلمين منذ اندلاع الفتنة الكبرى فى أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه.
اللعب بالعواطف الدينية للسنّة والشيعة خطر عظيم لا يبشر بأى خير ولا بأى نصر لأى من الطرفين، والضحية دائما من فقراء المذهبين، وهم فى البداية والنهاية فقراء أمة الإسلام الذين لا يضحون بحياتهم من أجل نصرة الدين، بل من أجل أطماع الملالى والملوك الذين يحاربون من أجل غرور الدنيا وليس سواها.
لا أريد أن يصب هذا المقال فى تأجيج الفتن الطائفية، ولا أريده مع طرف ضد طرف، لأن الطرفين فى رأيى على خطأ، ويلعبان لصالح الخارج المتربص، الذى يريد إضعاف وتفتيت المنطقة، وإلقاء المزيد من اللهب على نيران الصراعات والنزاعات القديمة والمتجددة، فإيران كانت حتى نهاية السبعينيات هى الشرطى الأمريكى الأهم فى المنطقة، ولما قامت الثورة الإسلامية، خرجت طهران من حظيرة التبعية، ورفعت شعار «تصدير الثورة» إلى بقية أقطار المنطقة، وأعاد الغرب صياغة هذا الشعار فى عقول حكام السنة التابعين فى الجزيرة إلى «خطر المد الشيعى»، فبادروا إلى صد الخطر، بدعم صدام حسين فى العراق، ووصفوه بـ«حارس البوابة الشرقية» لأرض العرب، وشجعوه على شن حرب مباشرة ضد إيران امتدت لأكثر من 8 سنوات، واستنزفت الكثير من موارد بلاده، وانتهى الدعم والتوريط بخذلان، عندما أراد صدام أن يثأر، تورط فى فخ أكبر، وانتقلت القصة من الملهاة إلى المأساة بعد احتلال صدام للكويت، حيث بدأت السعودية تحرض ضد «النظام السنى»، حتى قضت عليه تماما، وتم إعدام آخر زعيم سنّى فى بغداد، وسط تكبير الشيعة وحكام السعودية معا!
ومع انتعاش خطة الفوضى الخلاقة لعبت السعودية دوراً كبيراً فى إسقاط أنظمة (سنّية أخرى) فى مصر وليبيا، بالإضافة إلى دعمها لجماعات مسلحة سنية تحاول استعادة التوازن مع الشيعة فى العراق، ثم تركز جهودها فى إسقاط نظام الأسد لأسباب ثأرية ذات طابع شخصى ونفسى اتخذت فى ظاهرها صراعا مذهبيا مع «نظام علوى»، ومع صعود جماعة الإخوان للحكم فى مصر وتونس، وبروز خطر التنظيمات الإسلامية المسلحة، وانفلات بعضها مثل تنظيم الدولة (داعش)، تحسس آل سعود نزوعهم الإمبراطورى فى المنطقة، وأوقفوا المدد عن هذه الجماعات، وتخلوا عن الإخوان، وبدأ الملك عبدالله فى تهدئة أوضاع البيت فى الداخل عن طريق تحالف «مصرى- إماراتى»، لكن الحكيم رحل، وتولى بعده الملك سلمان القادم من أروقة المخابرات، وسرعان ما حدثت فى بدايات حكمه تغيرات فى التوجهات السعودية أضعفت علاقته بمصر، لأنه زحزح «الإخوان» من رأس القائمة، ووضع بدلا منها «خطر التمدد الإيرانى»، حتى لو أدى ذلك إلى تقارب مع تركيا وقطر على حساب مصر، وكانت «عاصفة الحزم» مقياساً تحسب به السعودية قوة علاقاتها بالدول الصديقة، ودخلت المملكة حربا مباشرة بإذن من واشنطن تحت ذريعة «انقلاب الحوثيين على الشرعية فى اليمن»، وهى الحرب التى بات واضحا أنها تستهدف تحجيم الوجود الإيرانى، بعد أن أحاط بالمملكة من الشمال (العراق والشام) والشرق (البحرين) والجنوب (اليمن).
قبل أيام أشعل إعدام الداعية الشيعى «نمر النمر» شرارة التوتر بين الشيعة ونظام آل سعود فى الداخل والخارج، وارتفعت نبرة التهديدات والتراشق ولغة الثأر، وباتت السعودية فى ورطة حقيقية، أظنها ثمرة لدورها فى تحطيم العرق وإعدام صدام حسين، والإخلال بالتوازن الإقليمى لصالح إيران، وهو ما تعانى منه الرياض الآن بشدة، ولا أظن أن الحل فى التحالفات العسكرية والمزيد من الحرب، أظنه فى إدراك اللحظة بكل تواضع، والقبول بترتيبات جديدة وعاقلة لحماية المنطقية بعيدا عن صراع التحالفات، والاستقواء بالبيت الأبيض الذى طالما خذل حلفاءه فى اللحظات الفارقة.