ليس صحيحاً أن فاروق استسلم فى هدوء للانقلاب الذى هدَّد عرشه. فحسب الوثائق البريطانية والأمريكية اتصل الملك فاروق، فى الخامسة صباح 23 يوليو، بالسفير الأمريكى فى القاهرة «جيفرسون كافرى» يطلب منه أن تساعده الولايات المتحدة على مغادرة الأرض المصرية بأسرع ما يمكن بعد أن استشعر الخطر الشديد الذى يتعرض له. وقد سأل فاروق السفير إذا كانت هناك أى قطعة بحرية أمريكية قريبة من الشواطئ المصرية تستطيع أن تتحرك بسرعة إلى ناحية الميناء الخاص بقصر رأس التين لتأخذه هو وعائلته إلى خارج مصر تحت حماية أمريكية. وقال فاروق للسفير كافرى إنه لا يستطيع وأسرته المغامرة بالذهاب إلى أى مكان، لأنهم قد يقعون فى الأسر، وهو لا يستطيع أن يتبيَّن مدى صلة حركة الضباط فى القاهرة بقوات حامية الإسكندرية. وأضاف فاروق أنه فكر فى المغادرة بواسطة اليخت الملكى «المحروسة» لكن قائد اليخت (القومندان جلال علوبة) أبلغه خشيته من أن تكون بطاريات السواحل موالية للانقلابيين فتضرب اليخت الملكى بمدافعها وتعطله أو تغرقه.
وتضيف الرسالة التى بعث بها السفير الأمريكى فى القاهرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية أن فاروق ذكر له أنه لم يوجه مثل هذا الطلب إلى السلطات البريطانية، لأنه لا يريد أن يغادر مملكته تحت حماية المدافع البريطانية فتسوء صورته أمام شعبه، فضلاً عن أنه ليس واثقاً من النوايا البريطانية تجاهه. وجاءت نصيحة السفير الأمريكى للملك بأن يحتفظ بهدوء أعصابه، لأن ذعره كما هو ظاهر لا يخدم حياته، والأفضل أن يظل ثابتاً فى انتظار الكيفية التى يتصرف بها الانقلابيون.
ومع أن السفير الأمريكى أبلغ الملك بأن الحكومة الأمريكية لن تخذله بما يعرِّض سلامته للخطر، فإن الوثائق تكشف أن واشنطن وجدت أن ما حدث فى الساعات الأولى لـ«الانقلاب العسكرى فى مصر» لم يكن فيه ما يهدد حياة فاروق، وأن مطالب الانقلابيين مقصورة على إبعاد عدد من رجال الملك فى الجيش، ولكن «إذا ظهر بين الانقلابيين ضباط شيوعيون (كما تقول الوثائق) فإنها سوف تعيد حساب موقفها من الامتناع عن التدخل المباشر».
■ ■ ■
تطورت الأحداث بالنسبة لفاروق منذ صباح يوم 23 يوليو 52 وجرت فى ذلك اليوم على الوجه التالى:
1ـ إعلان الجيش بيانه الذى تضمن قيامه بتطهير نفسه وتولى أمره رجال يثق فى قدرتهم ووطنيتهم.
2ـ ظهور اللواء محمد نجيب كقائد للحركة، ونزوله فى العاشرة صباح اليوم فى سيارة مكشوفة شوارع القاهرة وإلى جانبه «بكباشى» غير معروف، وقد أحسن الشعب فى كل الشوارع استقبالهما، مما أعطى «الحركة المباركة»- كما سمَّت نفسها- شرعية شعبية أولية. وفيما بعد تبين أن البكباشى الذى صاحب نجيب اسمه «جمال عبدالناصر»، وقد أوضحت الأحداث بعد ذلك أنه القائد الحقيقى للضباط الأحرار.
3ـ إبلاغ فاروق مطالب الجيش فى أول اتصال جرى بين القصر وضباط الحركة عن طريق الوزير فريد زعلوك، الذى اتصل باللواء محمد نجيب يسأله: ما مطالب الجيش؟ وكان رد نجيب: نحن نطالب بتكليف على ماهر بتشكيل الوزارة، وبطرد محمد حسن وحلمى حسين وأنطوان بوللى من حاشية الملك.
4ـ قيام الملك فاروق بتكليف على ماهر بتشكيل الوزارة حسب طلب الحركة. وكان إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير روزاليوسف، الذى ذهب إلى مقر القيادة العسكرية صباح 23 يوليو، حيث كان هناك محمد حسنين هيكل من أخبار اليوم، وحلمى سلام من دار الهلال، كان إحسان هو الذى اقترح على ضباط الحركة اسم على ماهر لتولى الوزارة، ولكن على ماهر اشترط أن يأتيه التكليف من الملك.
■ ■ ■
فى برقية بتوقيت الرابعة مساء يوم 23 يوليو من القائم بالأعمال بالسفارة البريطانية فى القاهرة (حيث كان السفير خارج مصر فى إجازة) إلى وزارة الخارجية فى لندن، وكان وزيرها أنتونى إيدن. قالت البرقية إن السفير الأمريكى كافرى أبلغهم بأن الملك فاروق اتصل به فى الثالثة بعد الظهر، وأبلغه أنه لا يجد بديلاً عن قبول مطالب العسكريين، بما فيها استقالة نجيب الهلالى، وتعيين على ماهر رئيساً للوزراء.
وأبدى الملك للسفير الأمريكى شعوره بالمرارة الشديدة منهم لعدم إبلاغه باستعداد أمريكا للتدخل، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك كثيراً وقال لكافرى إنه يعرف أن (الإنجليز) هم المدبرون الحقيقيون للانقلاب ضده، وهو على أى حال مستعد لمواجهة كل الاحتمالات، ولن يترك البلد مهما كان.
تغيرت الصورة كما يتضح من برقية بعث بها مايكل كروسويل، القائم بالأعمال البريطانى، إلى وزارة خارجيته فى لندن يوم 24 يوليو 52 الساعة العاشرة صباحاً يقول فيها: تقابلت الآن مع السفير الأمريكى المستر كافرى، وقد قال لى إن الملك فاروق يلاحقه بالتليفونات منذ الفجر، يقول له إن الوسيلة الوحيدة لمساعدته هى تدخل عسكرى لإنقاذه وإنقاذ أسرته، وهو لم يطلب تدخل السفارة البريطانية، لكن تلميحاته كانت واضحة نحو ذلك الطلب، ولذلك فإن كافرى يريد معرفة رد فعل حكومة جلالة الملكة. وقد أبلغته بأن (بريطانيا) تتابع ما يجرى، وعلى علم به، وأنه إذا أراد رأيى الشخصى فهو أننا أمام مشكلة داخلية عويصة، ومن المشكوك فيه أن تدخلاً أجنبياً يمكن أن يساعد فاروق على حلها.
■ ■ ■
جاء موقف بريطانيا بعد أمريكا حاسماً لغير صالح فاروق عندما بعث وزير الخارجية إيدن إلى القائم بأعمال السفارة البريطانية فى القاهرة يوم 24 يوليو رسالة أهم ما فيها قول إيدن إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة لا ترغب فى التدخل فى الشأن المصرى إلا إذا نشأت أحوال تتطلب حماية أرواح الرعايا البريطانيين، ولذلك صدرت الأوامر إلى القوات المسلحة البريطانية فى مصر (كانت موجودة فى منطقة القناة) بأن تكون فى حالة استعداد، وقد أبلغنا اللواء محمد نجيب بوسائلنا (عن طريق اللواء شوقى عبدالرحمن) ليكون واضحاً أمامه عدم قلق الجيش المصرى من رؤية أى استعدادات لنا، وأنها ليست موجهة ضد القوات المصرية، بل إن الأوامر لدى القوات البريطانية تجنُّب وقوع أى حادث.
وفى يوم 25 يوليو، وفى رسالة عاجلة بعث بها القائم بالأعمال البريطانى كروسويل إلى وزارة خارجيته تقول: أبلغنى السفير الأمريكى جيفرسون أن الملك فاروق اتصل به منفعلاً يطلب حاملة طائرات أمريكية تقترب من الشاطئ المصرى أمام قصره، وتنقله إليها طائرة هليكوبتر تابعة لها، لأنه مقتنع الآن بضرورة الإفلات هرباً. وقد بذل السفير الأمريكى كل نفوذه وحججه ليقنع الملك بعدم مغادرة بلاده حتى لا يفتح الطريق أمام إعلان جمهورية متطرفة!
وفى مساء يوم 25 يوليو قطعت الاتصالات التليفونية بين قصر رأس التين- حيث يقيم فاروق- وخارج القصر، وأصبح فاروق فى حالة حصار بعد أن رفضت أمريكا وبريطانيا مساعدته، منتظراً ما تأتى به الساعات القادمة.