x

صلاح منتصر فاروق ظالماً ومظلوماً (18) صلاح منتصر الإثنين 07-12-2015 21:21


المعارضة تقول للملك: صبر الشعب مهما طال لابد أن يصل إلى حد.

شهد فاروق منذ نهاية عام 1948 هبوطاً فى شعبيته نتيجة حرب فلسطين وروائح الفساد التى راجت عن صفقات سلاح جرت لأجل حصول أصحابها على العمولات، وإعلان فاروق طلاقه من الملكة فريدة التى كان الشعب يحبها، وعدم نجاح الوزارات التى «صنعها» لتملأ الفراغ الذى أحدثه إبعاد الوفد عن الحكم منذ الإقالة المهينة للنحاس فى عام 1944، كما شهدت البلاد موجة من المظاهرات وجرائم العنف التى ارتكبها الإخوان، منها مقتل محمود فهمى النقراشى، رئيس الوزراء (28 ديسمبر 48) لأنه ضاق بالإخوان وأصدر قراراً بحلهم (8 ديسمبر 48)، وجاء الرد باغتيال المرشد العام حسن البنا (12 فبراير 1949). وغير ذلك السلوك غير اللائق من ملك أصبح يدمن القمار وارتياد الكازينوهات وحاشية لا يجب أن يحاط بها ملك.

وفى محاولة لاستعادة شعبيته، قرر فاروق إعادة الوفد للحكم عن طريق انتخابات جرت فى يناير 1950 واكتسحها الوفد بحصوله على 219 مقعداً من 228. وفى 12 يناير شكل رئيسه، مصطفى النحاس، الوزارة الثالثة والأخيرة له فى سنوات حكم فاروق.

ووجدت المعارضة أن النحاس لم يعد الشخصية القوية التى تعارض تصرفات فاروق، فقدم مصطفى مرعى، أحد كبار المحامين، وعضو مجلس الشيوخ، استجوابا فى مايو 1950، اتهم فيه كريم ثابت، المستشار الصحفى لفاروق، بالاستيلاء على خمسة آلاف جنيه (تساوى أكثر من خمسة ملايين جنيه اليوم) من أموال جمعية المواساة بالإسكندرية، والتلاعب فى صفقات الأسلحة والذخائر التى اشتريت من أوروبا. وجاء رد الملك مع الوفد عنيفا فى 17 يونيو، باستصدار مراسيم إسقاط 17 من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين، منهم مصطفى مرعى ومحمد حسين هيكل، رئيس المجلس.

وسافر الملك فى إجازة إلى أوروبا، وفى يوم 17 أكتوبر، قبل عودته بيوم واحد، أعد عدد من رؤساء الأحزاب والمستقلين المعارضين عريضة لم تستطع الصحف نشرها، كما منعت المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، وكان أحد موقعيها، من نشرها فى سلسلة كتبه الرائعة عن تاريخ مصر القومى، وقد حصلت على هذه المذكرة فى وقتها واحتفظت بها فى أرشيفى. وكان نص المذكرة ما يلى:

«يا صاحب الجلالة:

إن البلاد لتذكر لكم أياماً سعيدة كنتم فيها الراعى الصالح والرشيد. وكانت تحف بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفت حول شخصكم قلوبها، فما واتتها فرصة إلا دلت فيها على عميق الولاء والوفاء. واليوم تجتاز البلاد مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسف أنه كلما اتجهت إلى العرش فى محنتها، حيل بينه وبينها، لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانا فى الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف فأساؤوا النصح وأساؤوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات، وهى الآن مدار التحقيق الجنائى الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتما عن تناولهم بحكم مراكزهم. كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور وأن النظام النيابى أضحى حبرا على ورق منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيو سنة 1950 التى قضت على حرية الرأى فيه وزيفت تكوين مجلسنا الأعلى كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا.

ومن المحزن أنه قد ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء عن هذه المساوئ وغيرها من الشائعات التى لا تتفق مع كرامة البلاد حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا فى صورة شعب مهين يسام الضيم فيسكت عليه، بل ولا يتنبه إليه ويساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلى مراجله وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون.

يا صاحب الجلالة:

لقد كان حقاً على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت فى أكثر من مناسبة على التخلص من مسؤوليتها الوزارية، بدعوى التوجيهات الملكية وهو ما يخالف روح الدستور وصدق الشعور...

ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستورى يملك ولا يحكم. كما أنها توهمت أن فى رضاء الحاشية ضماناً لبقائها فى الحكم وستراً لما افتضح من تصرفاتها، وما انغمست فيه سيئاتها- وهى لاتزال أشد حرصا على البقاء فى الحكم وعلى مغانمه منها على نزاهته- ولهذا لم نرَ بداً من أن ننهض بهذا الواجب فنصارحكم بتلك الحقائق ابتغاء وجه الله والوطن، لا ابتغاء حكم ولا سلطان، وبراً بالقسم الذى أديناه أن نكون مخلصين للوطن والملك والدستور وقوانين البلاد. وما الإخلاص لهذه الشعائر السامية إلا إخلاص الأحرار الذى يوجب علينا التقدم بالنصيحة كلما اقتضاها الحال.

يا صاحب الجلالة

إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منتهٍ إلى حد، وإننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى فتنتشر فيها المذاهب الهدامة بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد.

لهذا كله نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحا شاملا وعاجلا، فترد الأمور إلى نصابها، وتعالج المساوئ التى نعانيها على أساس وطيد من احترام الدستور وطهارة الحكم وسيادة القانون، بعد استبعاد من أساؤوا إلى البلاد وسمعتها، ومن غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشلوا فشلا سحيقا فى استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها، حتى بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها، وأهدروا فوق إهدار اقتصادها القومى، فاستفحل الغلاء إلى حد لم يسبق له مثيل وحرموا الفقير قوته اليومى.

ولا ريب أنه ما من سبيل إلى اطمئنان أية أمة لحاضرها ومستقبلها، إلا إذا اطمأنت لاستقامة حكمها، فيسير الحاكمون جميعاً فى طريق الأمانة على اختلاف صورها متقين الله فى وطنهم، ومتقين الوطن فى سرهم وعلنهم، والله جلت قدرته هو الكفيل بأن يكلأ الوطن برعايته فيسير شعب الوادى قدما إلى غايته.

توقيع: إبراهيم عبدالهادى (رئيس حزب السعديين ورئيس الديوان الملكى ورئيس وزراء سابق). محمد حسين هيكل (رئيس حزب الأحرار الدستوريين ورئيس مجلس الشيوخ سابقا). مكرم عبيد (رئيس حزب الوفد وسبق أن قام أحمد حسنين رئيس ديوان الملك بدور هام فى الوقيعة بين مكرم عندما كان سكرتيرا عاما للوفد ومصطفى النحاس رئيس الوفد). حافظ رمضان (رئيس الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل باشا) عبدالسلام الشاذلى. طه السباعى. مصطفى مرعى. عبدالرحمن الرافعى. دسوقى أباظة. أحمد عبدالغفار. على عبدالرازق. رشوان محفوظ. حامد محمود. نجيب إسكندر. زكى ميخائيل بشارة. السيد سليم.

وحسب اتفاق الموقعين على البيان، فقد حمله إلى قصر عابدين ثلاثة منهم هم: عبدالسلام الشاذلى، وطه السباعى، ومصطفى مرعى، ولما كان الملك فاروق خارج البلاد فى ذلك الوقت وكان موعد عودته فى اليوم التالى، فلم يكن هناك أحد لتسلم البيان، ويبدو أن هذا ما توقعوه فأرسلوا البيان بالبريد الموصى عليه إلى حسن يوسف باشا، رئيس ديوان الملك بالنيابة، وكان موجودا فى ذلك الوقت فى قصر رأس التين، كما أرسلوه إلى الصحف فصدرت تعليمات الحكومة إلى الصحف بعدم النشر، ولكن جريدة آخر لحظة التى تصدر فى صورة ملحق مع مجلة آخر ساعة فى يوم الأربعاء 18 أكتوبر 1950 نشرته، فتمت مصادرتها وظهرت طبعة جديدة من آخر لحظة وصفحتها الأولى بيضاء...

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية