لم يكُن الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل مديرًا للحملة الانتخابية للرئيس السادات فحسب.. وإنّما كان مُنَظِّرًا رئيسيًا لأفكار ورؤى الزعيم الجديد.. حيث أصبح الأستاذ هيكل واحدًا من نجوم «مدرسة السادات السياسية».
( 1 ) من الأخطاء الشائعة بين العَامّة.. والتى تمدّدت حاليًا بين النّخبة.. حِفْنة من المقولات الزائفة بشأن مواقف الأستاذ هيكل.. فى التاريخ، ومن التاريخ. وإنّى لأرجو من «المؤرخين الجُدد» أن يعملوا على تفكيك تلك المقولات.. وعرضها وتحليلها على نحوٍ أمين.. انتصارًا للحقيقة.. دون زيادة أو نقصان.
إن من بين «المقولات الزائفة» والتى راجتْ عن «الأستاذ» حتى باتتْ وكأنّها حقائقُ ثابتة: «الأستاذ هيكل.. كان ضدّ طرد الخبراء السوفييت من مصر.. لأن فى ذلك خسارة للحليف السوفيتى من دون ثمن».. «كان الأستاذ هيكل ضدّ رؤية السادات لحرب أكتوبر.. ذلك أنه أَضَاعَ بالسياسة مكاسب السلاح».. «هيكل على حق فى هجومه على السادات بشأن رؤيته لـ«الحرب المحدودة».. وبشأن إبلاغ السادات الأمريكان- من خلال رسالة مستشاره للأمن القومى محمد حافظ إسماعيل إلى هنرى كيسنجر- أن هدف الحرب هو: تحريك الموقف على الجبهة، من أجل التسوية السلمية.. «إن موقف الأستاذ هيكل.. ثابت ودائم.. فى العداء لاتفاق كامب ديفيد واتفاقية السلام».
( 2 ) أقولُ- وبقدرٍ كبير من اليقين- إن كل المقولات السابقة.. خاطئة. لم تكن تلك مواقف «الأستاذ» بأىِّ حال. لكن «الأستاذ» أَعَادَ صياغة تاريخه بما يتوافق مع اللحظة.. وكان بارعًا فى «صناعة الحِكمة» بأثر رجعى!
بل إن الحقيقة هى النقيض تمامًا.. كان «الأستاذ» هو الكاتب الوحيد الذى دعَا إلى طرد الخبراء السوفييت من مصر، وكان- أيضًا- أول من دعا إلى حربٍ محددةٍ لتحريك الموقف الحربى، ولو كانت تلك الحرب المحدودة.. بأقلِ قدرٍ ممكن، لأن الهدف ليس الحرب.. وإنما الهدف هو التسوية السلمية، وكان الأستاذ واضحًا وحاسمًا فى ضرورة الانطلاق نحو المفاوضات مع إسرائيل.. على نحْو ما حدث لاحقًا فى كامب ديفيد.
( 3 ) تحّرك الأستاذ هيكل على نحو بارع من مديح الاتحاد السوفيتى واعتباره السَّنَد الأكبر لبلادنا.. إلى الهجوم على الاتحاد السوفيتى واعتباره العقبة الكبرى!
ويرصُد الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه «كم عُمْر الغضب؟» ذلك التحّرك فى فصلٍ كاملٍ بعنوان «الجذور».
كان الأستاذ هيكل قبل رحيل عبدالناصر.. يرى أن أمريكا وإسرائيل.. دولةً واحدة، وأنه يستحيل تغيير الموقف الأمريكى بأى حال.. ومن ثمّ فإن التحالف المصرى السوفيتى هو جزءٌ من العقيدة الوطنية لمصر.. وكان من بين نصوصٍ عديدة صاغها «الأستاذ» فى مديح ذلك «التحالف الضرورة».. قوله فى الأهرام: «لا يوجد مصرى يحترم مصريَّته.. ولا عروبى يحترم عروبتَه.. إلا وكان صديقًا للاتحاد السوفيتى».
وفى بدايات حكم الرئيس السادات- وقبل أن يُفصِحَ السادات عن رؤاه- كَتَبَ «الأستاذ» فى مقالٍ له بالأهرام فى 27 أغسطس 1971.. بعنوان «مرة أخرى العلاقات العربية السوفيتية»: «إن أنور السادات لا يستعمِل الاتحاد السوفيتى كورقة.. وإنما هو صديقٌ فى نضال».
( 4 ) لقد تحوّل «السادات» الذى كان «مناضلاً» و«صديق السوفييت» فى «ربيع الرضا» إلى «خائن» و«رجل أمريكا» فى «خريف الغضب»!
لم يكن السادات خائنًا.. ولا رجلَ أحد.. بل كان رجلَ دولة وزعيما وطنيا كبيرا.. وكانت تقلباتُه السياسية وراءها ثابتٌ واحدٌ لا يتغير: المصلحة المصرية.. وهذه قصة أخرى.
( 5 ) تحوّل السادات.. وتحوّل وراءه «الأستاذ».. وبعد أن كان رأى «الأستاذ» أن أمريكا وإسرائيل دولة واحدة ويستحيل الفصل بينهما.. أصبحت كتابات «هيكل».. كالتالى: أمريكا وإسرائيل.. ليستا دولةً واحدة، إنّه يمكن تغيير الموقف الأمريكى.. إن سبب غضب أمريكا من مصر هو دعم القاهرة للنفوذ السوفييتى فى الشرق الأوسط.. إن الاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط لا تقوم على دعم إسرائيل بل مواجهة السوفييت.. وإذا ما قامت مصر بطرد السوفييت.. سيكون ممكنًا «تحييد أمريكا».. وما لم يتم «تحييد أمريكا».. لا يمكن لمصر أن تحارب.. لأن الحرب بدون ذلك مستحيلة.. والحلّ إذن.. إرضاء أمريكا بإغضَاب السوفييت.. أو «خروج السوفييت» من أجل «تحييد أمريكا»!
امتدح الأستاذ هيكل فى مقاله «الحوار المطلوب والضرورى» والذى نشرته الأهرام فى 11 أغسطس 1972 قرار الرئيس السادات بطرد الخبراء السوفييت.. وقال: «إن خروج السوفييت.. حرّك نبض الوطنية المصرية.. ووضعها فى موضع الاعتماد على النفس».
وفى مقاله التالى بالأهرام فى 18 أغسطس 1972 كتب الأستاذ هيكل مهاجمًا الاتحاد السوفييتى فى لغةٍ قاسية: «السوفييت لم يدركوا قيمة مصر الحضارية».
يرى الدكتور فؤاد زكريا أن فكر الأستاذ هيكل كان باختصار: أن تتنافس مصر مع إسرائيل على حماية المصالح الأمريكية.. فى إطار تحييد أمريكا!
ونكمل غداً