x

فاطمة ناعوت مذبحة ٢٠١٦ فاطمة ناعوت الأحد 03-01-2016 21:47


مع مطلع كل عام جديد أقوم بأكبر جريمة خيانة أكررُها كل عام. أندمُ عليها بضعة أيام، أو أسابيع، وربما شهور، شأنَ كل مجرم، وكل خائن، وأنا أهمس لنفسى: «لن أكرر جريمتى، الخيانةُ لا تليق بى!» ثم لا ألبثُ أن أفكر فى معاودتها، مع نهاية العام، وأخطط لها جيدًا، شأن عتاة المجرمين، ثم أنفّذ الجريمة بدقة وبقلب بارد، مع الساعات الأخيرة من كل عام.

ولأننى أكتبُ مقالى للاعتراف والتطهّر، ونشدانًا للغفران، أسوق لكم قصة طريفة تُنبئ عن الخبر:

ذهب «جورج برنارد شو»، الكاتب الأيرلندى الجميل، إلى مكتبة لبيع الكتب المستعملة، فوقع بصرُه على أحد كتب مسرحياته القديمة. فتح الكتابَ، فتذّكر على الفور حكاية تلك النسخة. كان قد أهداها إلى أحد أصدقائه، وكتب بخط يده إهداءً يقول: «إلى مَن قدّر الكلمةَ الحرّةَ حقَّ قدرها، إلى صديقى العزيز، مع أحرّ تحيات برنارد شو».

اشترى شو النسخة، ثم كتب تحت الإهداء الأول إهداءً جديدًا يقول: «جورج برنارد شو يجدِّد تحياتِه الحارةَ إلى الصديق العزيز، الذى يقدّر الكلمةَ حقَّ قدرها». ثم أرسل الكتاب بالبريد المسجّل إلى الصديق «الخائن».

خائن! هل قلتُ: خائن؟! إذن أنا أحد الخونة العُتاة فى درب الخيانة، إذا ما اتفقنا أن التخلص من الكتب المقروءة خيانةٌ. هى خيانةٌ دون شكّ لكن تبًّا لضيق الأمكنة وأنين المكتبات تحت وطأة ما تحمل من كنوزٍ وأفكار ورؤى ونظريات وفلسفات وجنون! ليس بوسع الإنسان أن يحتفظ بكل ما قرأ من كتب، وبما يجب ألا يخلو منه بيتٌ من أمّهات الكتب وعيونها. لابد أن يسكن الإنسانُ قصرًا منيفًا، يخصص قبوَه الواسعَ لهذا الكنز النابض الحى: الكتب.

الشاعر المصرى شعبان يوسف كتب قبل أعوام مقالاً طريفًا عنوانه: «إهداءاتٌ على الرصيف». رصد فيها عشرات الكتب التى أصدرها أصدقاؤنا أدباءُ مصرَ وشعراؤها، وأهدوها إلى أصدقائهم من أدباء مصرَ وشعرائها، لكن المُهدَى إليهم تخلّصوا من الكتب، ربما بعد قراءتها، وربما قبل ذلك، فكان مصيرها «سورُ الأزبكية»، الشهير ببيع الكتب المستعملة، حيث عثر عليها صديقنا الشاعر، فقرر، فى دعابة قاسية، أن يفضح الخونة. سكننى الرعبُ ورحتُ أفكّر فى كل كتابٍ خرج من مكتبتى ولم يعد! تُرى فى يد مَن الآن؟ تُرى متى أرى اسمى فى مقال «يفضح خيانتى»؟ ومَن بدوره «خاننى» وتخلّص من كتاب أهديتُه له ويرى عابرٌ إهدائى مُلقًى على الرصيف؟

وبعيدًا عن تلك النظرة الرومانتيكية للأمور، وبعيدًا عن الذات المتضخمة لدى الأدباء ورفضهم أن يتم التخلص من كتبهم تحت أى شرط، كأنما يرى كلُّ كاتب كتابَه «سِفرَ الأسفار»، دعونا نعيد الأشياءَ إلى أسمائها الأولى. الكتابُ: يُكتَب لكى يُقرأ. فيصبح زائدًا عن حاجة قارئه، لكنه يظلُّ «حاجةً ماسّةً»، لمن لم يقرأه. فلماذا يقبع «ميّتًا» فى مكتبة مكدّسة، بينما يحقّ له أن يطير ليسكنَ مكتبةً شاغرةً فى بيت قارئ جديد ينتظرُ أن تعمرَ بيتَه الكتبُ، وعقلَه نورُ الكتب؟

كان لابد من ارتكاب جريمتى، وتنفيذ مذبحة ٢٠١٦ لأفسح مكانًا بمكتبتى لمجموعة «مثنوى»، بأجزائها الستة الضخمة، لمولانا جلال الدين الرومى التى اشتريتها مؤخرًا من المركز القومى للترجمة فى يوم المترجم.

الحقَّ أقولُ لكم: أقيموا مذابحَكم، وخونوا الكُتّابَ والكتبَ، وأهدوا ما قرأتم لغيركم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية