x

مي عزام أفريقيا.. وحوش وساحرات بلا وطن مي عزام السبت 02-01-2016 23:03


في أفريقيا السوداء الموت قدر محتوم، أينما تولي وجهك تجده يحاصرك، الرصاصات المجنونة تحصد الأرواح، والمجاعات تهلك الأجساد النحيلة والأمراض والأوبئة تقصف الأعمار. أفريقيا قارة التعاسة والحروب الأهلية والصراعات الإثنية والانقلابات ذات الأرقام القياسية، يجلس الموت متربعًا على عرشه مستبدًّا، ليس هناك متسع للحياة، متوسط الأعمار في أفريقيا هو الأدنى عالميًّا، في سيراليون متوسط العمر 34 سنة، يصل إلى 38 سنة في أنجولا وزامبيا، في حين أن متوسط العمر في اليابان يصل إلى 82 سنة.

«آجو» صبي أسود ظريف، يعيش في قرية صغيرة آمنة نسبيًّا، والده مدرس وأمه حنونة تعتني بالأسرة: الزوج والأبناء الثلاثة وحماها العجوز، آجو في الحادية عشرة من عمره تقريبا، مرح يحب الغناء والرقص ولا يمل من اللعب مع أقرانه وخاصة بعد أن أغلقت المدرسة أبوابها بسبب نزوح اللاجئين، يصنع من صندوق تليفزيون والده تلفزيونًا خياليًّا، بدلًا مما يعرض على الشاشة يقوم هو وأصحابه بعروض تمثيلية مباشرة يمكن للمتفرج متابعتها من خلال مكان الشاشة الخالي، هذا الطفل الذكي خفيف الظل لم يكن يعرف أن القدر يرسم له مستقبلًا مختلفًا، لم يجُل لحظة في خاطره، أنه سيعيش تجربة ستورثه المرارة والأحزان والمعاناة وتظل محفورة في ذاكرته حتى آخر يوم في حياته.

في أفريقيا الحرية المكفولة للجميع حق الموت، يمكنك أن تختار طريقة الموت، لكن صعب أن تختار أسلوب حياتك، القرية الآمنة والتي استقبلت أعدادًأ كبيرة من النازحين من القرى المجاورة، أصبحت معرضة للتنكيل بها من قوات الانقلاب، لم يعُد أمام سكان القرية إلا أن يخرجوا النساء والأطفال منها بسرعة، على أن يبقى الرجال للدفاع عن قريتهم، «آجو» لم يستطِع الفرار مع أمه وأخته الصغيرة، سائق السيارة التي أقلت الأم وعددًا من نساء القرية رفض اصطحابه، لم يكن لديه مكان له.

دخلت قوات الانقلاب القرية وقتلت الجميع باعتبارهم خونة متمردين وجواسيس للنظام القديم، الموت كان من نصيب والد «آجو» وأخيه الأكبر، استطاع هو الهرب إلى الأحراش حيث وقع في يد خصومهم، الذين علّموه كيف يكون جنديًّا مطيعًا لأوامر القائد، وكيف يقتل دون تردد بعد أن أقنعه القائد بأنه يثأر من قاتلي أسرته، وبعدها انطلق الوحش الكامن بداخله، ليقتل عشوائيًّا كغيره من الشباب الذين يتم تطويعهم ليكونوا أداة قتل.

«آجو» هو بطل فيلم وحوش بلا وطن Beasts of No Nation، وهو أيضًا السارد في الفيلم ويجسد دوره على الشاشة إبراهام أتاه، ولقد كان موفقا جدا في الدور، أما دور القائد فجسده بإتقان إدريس ألبا، والفيلم أنتاج أمريكي وتم تصويره في غانا وهو ليس أول فيلم يتحدث عن بشاعة الحروب في أفريقيا وتجنيد الأطفال، فلقد سبقه فيلم ساحرة الحرب War Witch وهو إنتاج كندي حاز جائزة المحكمين في مهرجان برلين عام 2012 ورشح للأوسكار، كما حازت بطلته راشل موانزا جائزة الدب الفضي في برلين كأفضل ممثلة عن دورها في الفيلم.

استوقفتني عبارة على لسان «آجو» في الفيلم، حين كان يتحدث لنفسه قائلًا: الطريقة الوحيدة لعدم القتال هي الموت، هذا الصبي الصغير أصبح أمله في الحياة أن يتخلص منها سريعًا، فلقد أصبحت عبئًا عليه خاصة بعد وفاة صديقه المقرب سترايكا متأثرًا بطلق ناري، فلقد تعرض للاغتصاب من القائد، لا يعيش حياة آمنة كريمة، بل أدمن على الكوكايين المختلط بالبارود والحشيش كغيره من الصبية والشباب، الذين وجدوا فيه سبيلا للتخفيف من المعاناة التي يعيشونها والتي عبر عنها جندي، بعد أن سقط زميلهم توايسي مقتولا بإيعاز من القائد: لا شىء له قيمة، فالنهاية لهم جميعا الموت والموت المبكر؛ سواء كانوا مهاجمين أو مدافعين، قيمتهم لا تزيد عن قيمة طلقة الرصاص.

ينتهي الأمر بـ«آجو» في الاستسلام هو ومن معه لقوات الأمم المتحدة بعد أن عانوا مع القائد من شظف العيش، بعد أن خرج عن طوع القائد الأعلى وهو السياسي الذي يحركه.

في مخيم للرعاية كانت تتم إعادة لتأهيله، بالرغم من الحياة الآمنة في المعسكر إلا أن بعض من كانوا معه لاذوا بالفرار؛ فلقد اعتاد بعضهم القتل ولم تعد الحياة الطبيعية تروقه، والبعض الآخر كان يريد القتال من أجل الحصول على المال، الفقر نار تكوي كالحروب.

«آجو» يدرك أنه ترك مرحلة الطفولة وبراءتها، حتى بعد أن انتهت الحرب بالنسبة له فلن يستطيع العودة لفعل الأشياء الطفولية المرحة التي كان يفعلها، فروحه شاخت، يحاول نسيان ما مرّ به، ويتمسك بذكرياته عن أمه وأبيه وأخيه وأخته، فهؤلاء يذكّرونه بأنه كان يومًا شخصًا إنسانيًّا محبوبًا .

الفيلم لم يحدد بلدًا معينًا تجري فيه الأحداث، فكثير من الدول الأفريقية تتشابه في المأساة، القتل في الفيلم وحشي وعشوائي وبدائي، ولكن الموت في الأحراش لا يختلف كثيرا عنه في الموصل، كابول، غزة، سيناء أو حتى باريس، صحيح أن الأطفال يجنّدون للقتل في أفريقيا، ولكنهم يقتلون على يد الآخرين في مناطق النزاعات المنتشرة حول العالم، فهم دائما في أول صفوف الضحايا.

بعد مشاهدتي للفيلم وبعد متابعتي لما يحدث حولنا في الواقع، تأكدت أن من يحمل البندقية ليس سوى منفذ للأوامر والتعليمات، أما القتلة الحقيقيون فيجلسون على طاولة المفاوضات، ويعقدون صفقات الأسلحة بالمليارات، ولا يفكرون كثيرا في أمثالنا، أنت وأنا و«آجو».. فنحن بالنسبة لهم مجرد أصفار على الشمال.

------------

«الرصاص يلتهم كل شيء... ويخلف وراءه أشخاصًا ينزفون في كل مكان» من حوار الفيلم.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية