منذ فترة ليست بعيدة طرحت فى هذا المكان السؤال: كيف تختار وزيراً؟ لا أدرى عما إذا كان أحد ممن لهم فى عملية اختيار الوزراء نصيب قد قرأ المقال أم لا، والأرجح أنه حتى من قرأه لم يهتم به كثيراً، وما ذاع عن الموضوع فى تشكيل الوزارة الأخيرة هو أن ترشيحات جرت، وأن أجهزة «معنية» قد راجعت الأمر، فكان الاختيار استناداً إلى ما جاء من شهادات معتبرة. ربما يكون مقال آخر عن اختيار المحافظين له نصيب أفضل، وعلى أى الأحوال فقد انتهينا تواً من «حركة محافظين» ضمت ١١ محافظاً. وما أحب تسجيله أنه على عكس كثرة من الزملاء، فإنه لا يوجد لدىَّ اعتراض أو نقد على «الحركة» الأخيرة. فما حدث أنها جاءت مثل كل «الحركات» السابقة على مدى ستين عاماً، وما ينتقده بعضنا من كثرة عدد لواءات الجيش والشرطة لا يبدو له مبرر، فهذا ما وجدنا عليه آباءنا منذ ثورة يوليو المباركة، حيث بلغت نسبة هؤلاء فى المتوسط ٧٠٪ من عدد المحافظين. الملاحظة هنا أن الـ٣٠٪ الباقية من المستشارين والقضاة وأساتذة الجامعات لم يختلفوا كثيراً لا من حيث الرؤى أو الإنجاز عن زملائهم من اللواءات. وإذا كانت المعضلة هى أن «الحركة» تؤثر على مدنية الدولة، فإنه لا يوجد دليل واحد على أن المحافظين يؤثرون على مدنية أو عسكرية الدولة بحال.
دعونا إذن نقفل ملف حركة المحافظين الأخيرة، ونتمنى لهم التوفيق. والمعضلة فى هذا التمنى أننا لا نعرف تحديداً ما الذى يجب أن نتمناه، فللأسف الشديد أننا لا نعرف ماذا نعنى بـ«المحافظة»، ولا ماذا نعنى بـ«المحافظ». للوهلة الأولى فإن المحافظات تبدو كنوع من التقسيمات «الإدارية»، وفى الماضى كانت تسمى «مديريات»، وتعنى أساساً بالأمور «البلدية» المتعلقة بالنظافة وأشكال الإضاءة البدائية، وبالطبع كان هناك مدير للأمن. الحياة كانت فى عمومها بسيطة، ولكنها تعقدت بزيادة عدد السكان، وظهور الكهرباء، وتنوع أشكال التعليم، ولم يعد كثيرون يعملون فى الحقول، وإنما يبحثون عن العمل فى الحكومة أو المصانع أو أنواع مختلفة من المهن. أصبحت المديرية محافظة لأنها لم تعد تتحمل تقسيمات إدارية تكونت فى بداية القرن التاسع عشر.
أدهشنا الرئيس السادات- رحمه الله- بأن أعلن أمراً مهماً، هو أن المحافظ هو ممثل رئيس الجمهورية فى محافظته. ومن يومها ارتفع شأن المحافظ، بل صار هناك مجلس للمحافظين، وتورمت الألقاب فصار هناك سيادة اللواء الوزير المحافظ، وأصبحت هناك بورصة للمحافظين لأنه باتت لديهم «حركة» لا تقل فى ذيوعها عن «حركة» الوزارة. المعضلة الكبرى هى أنه لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذى على المحافظ أن يفعله. قيل فى تفسير الموضوع إن المهمة الأساسية للمحافظ أن يحافظ على الأمن فى محافظته، ولعل ذلك سبب زيادة عدد اللواءات. الحجة مقبولة ومنطقية فى وقت انتشر فيه الإرهاب، ولكن الثابت أنه فى كل محافظة يوجد مدير للأمن عادة ما يكون برتبة لواء أيضاً، ولديه من الإمكانيات ما يجعله يقوم بمهامه. فإذا كان الأمن هو القضية: فلماذا لا نوحد وظيفة المحافظ مع وظيفة مدير الأمن فى شخص واحد، وساعتها سوف نتلافى قضية الأقدمية بين اللواءات، وأيضاً المفارقة بين مدير للأمن لديه الضباط والجنود والأسلحة والأقسام والسجون والأمن الوطنى، والمحافظ الذى لا يوجد لديه أىٌّ من ذلك سوى المنصب الرفيع.
الأرجح أن الأمن ليس وحده هو الوظيفة، وهناك تنمية المحافظة فى جميع الأمور من أول النظافة حتى الاقتصاد. هنا فإن خبرة المحافظ ضرورية فى الإدارة والاقتصاد والاجتماع، ولكنها فى الواقع غير كافية، لأن كل الأجهزة الخاصة بهذه الأمور المعقدة لا تتبع السيد المحافظ، ولكنها تتبع قيادتها المركزية فى القاهرة. هنا يصير نجاح المحافظ أو فشله متوقفاً على شخصيته وصلاته العليا فى فرض إرادته على من يعملون معه من ناحية، وانتزاع الموارد من الحكومة من ناحية أخرى. ولما كان ذلك ليس متوافراً بشدة فى المحافظين، فإن الأغلبية الساحقة منهم تعمل على تجنب الكوارث فى محافظتهم، فلا أحد منهم مطالب بإنقاص البطالة أو زيادة الإنتاج أو تحسين التعليم، وإنما أن تبقى الأمور على ما هى عليه، ومتابعة نصيب محافظته من الخطط القومية، وربما مع لمسة نظافة يكون التليفزيون على استعداد لتسجيلها.
رجاء قبل حركة المحافظين المقبلة أن يكون لدينا قانون جديد للمحليات يُعرِّف المحافظات ودور المحافظين، بحيث نمنحهم السلطة والمال على ما لديهم من إدارات، وموارد. وهؤلاء يمكن اختيارهم بطريقتين: الأولى الانتخابات، فعلى الناس أن تنتخب من عليه الإدارة المباشرة لشؤونهم. الثانية إذا استعصى الأمر على الأولى فإن كل المحافظات ليست سواء، وكلٌّ منها يحتاج حزمة من التخصصات والعلم والمعرفة بالمحافظة يحكم عليها اختبارات واختيارات متخصصين فى الموارد البشرية والسياسية. ساعتها سوف تكون لدينا محافظات من نوعية مختلفة، ولذلك سوف تحتاج محافظين غير الذين عرفناهم حتى الآن.