الثلاثاء بعد غد: «5 يناير2016»، يوافق الذكرى 134 لمولد نجيب باشا محفوظ.. بالنسبة للذين لا يعجبهم لقب «باشا».. هو ذكرى مولد الدكتور نجيب محفوظ أشهر أطباء النساء والولادة المصريين فى القرن العشرين بلا جدال، والمؤسس الحقيقى لهذا الفرع من فروع الطب فى مصر بعد أن كان مقتصرا قبل ذلك على الأطباء الأجانب وحدهم.. ورغم نبوغه العلمى والطبى الذى بوّأه فى مجال تخصصه مكانة عالمية، فقد كان فى الوقت ذاته كاتبا رفيع المستوى يمتلك لغة عربية نقية محكمة تتسم بالقدرة على الوصول إلى المعنى المراد من أقصر طريق، فضلا عن حاسة أدبية فريدة تعلن عنها صفحات كتابه البديع: «حياة طبيب» الذى هو فى رأيى واحد من روائع السيرة الذاتية فى تاريخ أدبنا العربى.. وقد قرأته أكثر من مرة على مدى الأربعين عاما التى انقضت منذ صدور طبعته الأولى عن دار المعارف فى سبعينيات القرن الماضى، وفى كل مرة أعيد فيها قراءته أشعر بنفس القدر من المتعة وكأنى أقرأه للمرة الأولى، ولحسن الحظ فإن «مكتبة الأسرة» وهى إحدى حسنات السيدة سوزان مبارك التى لا يمكن أن نجحدها بحال من الأحوال أيا ما كان رأينا فى سوزان مبارك ذاتها!، لحسن الحظ فإن تلك المكتبة قد أصدرت طبعة جديدة من هذا الكتاب منذ ما يقرب من عامين، وأغلب الظن أنها قد نفدت لما للكتاب من سحر فريد ولما للمكتبة نفسها من سعر زهيد!!، ولقد قرأت تلك الطبعة وكتبت عنها وعن المؤلف الدكتور نجيب محفوظ وقت صدورها وأول ما يستوقفنا فيها هو تلك الحكمة المأثورة التى يصدر بها المؤلف سيرته الذاتية والتى هى فى حقيقة الأمر عنوان دال على جوهر شخصيته هو، يوجز حياته بأكملها ويلخصها أبلغ تلخيص فى عبارة واحدة: (إذا لم تكن قد أعطيت الناس «نفسك»، فأنت لم تعطهم شيئا!!)، وبعد هذه الحكمة البليغة التى يلتقطها المؤلف الطبيب بملقط جراح مقتدر ويضعها أمام عيوننا لكى تكون دليلنا فيما بعد إلى فهم الكثير من دوافع سلوكه وقراراته فى شتى المواقف والمناسبات والتى روتها لنا فيما بعد بشىء من التفصيل الشائق فصول كتابه المتعاقبة.. بعد هذه الحكمة البليغة تستوقفنا المقدمة التى كتبها الدكتور طه حسين والتى يقول فيها من بين ما يقوله عن كتاب محفوظ: «هذا كتاب ممتع إلى أقصى غايات الإمتاع، فيه ألوان من الفائدة لا تكاد تحصى، فيه العبرة وفيه الموعظة، وفيه أسوة للشباب، وفيه المتعة التى تجدها فى كتاب عرف صاحبه كيف يكتبه، لا تجد فيه تكلفا، ولا تجد فيه إهمالا، ولا مبالغة من هذه المبالغات التى يتورط فيها كثير من الذين يتحدثون عن أنفسهم، وإنما هو سائغ ميسر منذ تبدأ قراءته إلى أن تفرغ منه، وهو بعد ذلك مغر بإعادة قراءته، وقد قرأته مرتين، وأكبر الظن أنى سأقرؤه مرة ثالثة»، ويضيف طه حسين: «هو يعرف كيف يستخرج العبرة من حياته، وكيف يجد مواضع العظة والتأمل، بحيث نقرأ كتابه فنعتقد أنه لم يكتب إلا حديثه الخاص إلى نفسه، كأنه يستعرض فى أوقات التأمل والتفكير حياته منذ الصبا إلى أن تقدمت به السن، وكأن أداة سحرية كانت تلحظه وهو يتأمل فى حياته ويستعرضها، فتسجل أحاديثه إلى نفسه وتنشرها بعد ذلك على الناس فى هذا الكتاب، وهو لا يخفى شيئا مما سرّه ولا مما أسخطه فى حياته، بل هو ينبئنا بأنه لم يكن صاحب عناية بالطب وحده وإنما كان مشاركا فى الأدب أيضا».. ونكتفى بهذا القدر من مقدمة الدكتور طه حسين ونواصل فى الأسبوع القادم الحديث عن نجيب باشا محفوظ أو الدكتور نجيب محفوظ، وعن كتابه الممتع «حياة طبيب».