x

يسري عبد الله شغف الكتابة وأشواق الحرية يسري عبد الله السبت 02-01-2016 16:59


ليست حرية الإبداع ترفًا تدافع عنه بعض النخب وتقدم رطانًا نظريًا حوله، لكنها خصيصة فكرية وجمالية تصحب المجتمعات الإنسانية في سعيها صوب عالم أكثر جمالًا وعدلًا وتقدمًا، إنها الروح التي تَسري في الكتابة – بكافة تنويعاتها- لتجعلها مقيمة في الوجدان الجمعي، ومدافعة عنه في آن.

وفي مجتمعات تفتقر إلى هذا الشغف الإنساني النبيل، وتجهز على مبدعيها عبر مظلات دينية تارة، وقمعية تارة أخرى، تصبح حرية التعبير إشكالية تحمل معها كل يوم صنوفًا من الجدل العقيم. فالأصل في الكتابة الحرية، والأصل في الإبداع أن يكون طليعيًا، والأصل في الحياة ذاتها أن تحوي تلك القدرة المتجددة على الإدهاش.

وفي الإبداع الأدبي تحديدًا تنتفي المسافة بين الواقع والمتخيل، بين الحقيقة والحلم، فثمة عالم ينهض على أنقاض العالم الواقعي ليشكل بديلا فنيا موازيًا، ينهل من خبرات الحياة وصخبها وعراكها المستمر، متجها صوب شطآن جديدة وعوالم لم يقربها أحد، تبعا لقدرة كل كاتب في التعبير عن لحظته السياسية/ الثقافية جماليًا، وفضحه للزيف الاجتماعي، والتناقضات الفادحة التي تعد بمثابة الوسط البيئي الذي يحيا فيه الفرد في عالم مضطرب، وما من أثمن ولا أرقى من قيمة الحرية بوصفها جوهر الكتابة/ جوهر الحياة.

وبحثًا عن ذلك الجوهر الإنساني الذي تقدمه الحرية للكتابة، يوضع القمع موضع المساءلة، وتصبح فكرة الاستبداد متصلة بعالم قديم ورجعي ومتهالك، يحيا على المزاوجة ما بين الفساد الروحي والتصورات البالية عن العالم.

وربما حمل الإبداع تاريخًا من القمع، مرّ به الكتاب أنفسهم، ومرت به الكتابة ذاتها، والمشترك في محن الإبداع المتتالية أن السياق السياسي / الثقافي الذي صاحب أسئلة الاستبداد، بدا منطلقا من رؤية أحادية للعالم، تراه إما ملائكة وإما شياطين، وتتعاطى مع الإبداع من منظور ديني وأخلاقي، إما لجهلها بالأسس الفنية والتصورات الجمالية التي تؤسس لفكرة الإبداع ومعناه المتجدد.

ليس ثمة شك في أن الكتابة بنتُ التنوع والاختلاف، وأن الكلمة الأخيرة صوب قراءة النص الأدبي لم ينطق بها أحد بعد، فالإبداع حمّال أوجه، يختلف التلقي بإزائه تبعا لخبرات كل متلقٍ ومحصوله المعرفي وخبراته القرائية التي شكلتها النصوص الإبداعية المختلفة، ومن قدرته على الاستجابة إلى طاقة التخييل الجهنمية التي يحملها الإبداع، ومن ثم فلا كتابة إبداعية دون اختلاف، ولا نص حقيقي دون أن تتعدد بإزائه القراءات.

وتتجلى أزمة حرية التفكير والإبداع حين تحضر المصادرة للأعمال الأدبية والفكرية، أو يتم اقتياد المبدعين إلى ساحات المحاكم وكأنهم مجرمو حرب، وبما يعني أن العقل العام بحاجة حقيقية إلى تجديد أدواته، أملا في التخلص من حالة الجُبن العقلي التي تسيطر على المجال العام، وفكرة المصادرة فضلا عن تعاستها المطلقة إلا أنها تخفي ذهنية ماضوية قامعة، فقدت قدرتها على قبول الجديد من جهة، وعلى افتقارها كل ميكانيزمات التخطي والمجاوزة اللازمتين لأي فعل إبداعي/ تحرري/ طليعي، يغاير السائد والساكن والمألوف من جهة ثانية.

إن مصادرة أي عمل إبداعي تبدو أكثر جرمًا من القتل، وبحسب الشاعر الإنجليزي جون ميلتون فإن «القضاء على كتاب جيد يعادل قتل إنسان تقريبا، بل هو أسوأ أيضا على نحو ما، لأن مَن يقتل رجلًا، يقتل كائنًا مفكرًا صوره الله، لكن مَن يقضي على كتاب جيد، يقتل الفكر ذاته، ويقضي- أكاد أن أجزم- على جوهر تلك الصورة الإلهية».

غير أن ثمة إشكاليات متعددة تجابه المبدع الآن، ولعل من أبرزها: تغول الفاشية الدينية، التي أفضت إلى ما أسميته بـ«تديين الممارسة النقدية»، فبعد نكسة الصيف السابع والستين اندفعت الجموع الغاضبة تفتش عن أسباب لما حدث، هذه الجموع التي وجد بعضها ضالته في تفاسير صاغها العقل النقلي الراكد، حصرت ما حدث في أنه «غضب من الله»، و«عقاب أليم»، وأن إدراك النصر/ النجاة كامن في العودة إلى الطريق القويم، وراج هذا الأمر كثيرًا، وانتعش الإسلام السياسي في سياق براجماتي خالص، استهلاكي الطابع، تلعب فيه قرارات الانفتاح الاقتصادي 1974 دور البطولة، وازدادت هجرة المصريين للعمل في بلاد النفط، هذه الهجرة التي عادت بمظاهر التدين الوهابي بلوازمه وطرائقه، فاتحد بذلك الظرفان المحلي والإقليمي في تشجيعهما لموجات التدين الشكلي، تلك التموجات التي بدت في تجلٍّ من تجلياتها جزءًا من موجة عالمية أكثر دهاء، عرفت بموجة «تديين العالم»، حين كانت الحرب الباردة لا تزال قائمة، لقد مثّل هذا التأصيل النظري مع دوافع أخرى اجتماعية تجلت في تردي الأوضاع الإنسانية للطبقات المنسحقة والمقموعة المهاد الحاضن للرجعية، فتغولت الفاشية الدينية، وأصبح عرض عمل فني أو إجازة عمل أدبي مقرونًا بموافقة المؤسسة الدينية، وربما كانت الأزمة الشهيرة حول فيلم «نوح»، شاهدا على استمرار هذا التغول المشار إليه، ويهدد أحد الشيوخ وقتها بإحراق دور العرض السينمائية التى سيعرض فيها الفيلم، بما يخلق مناخًا من التوتر المعبر عن رغبة عارمة لدى ممثلى السلطة الدينية فى التكريس لواقع رجعى بامتياز، تصادر فيه الأعمال الإبداعية وتخنق حرية التعبير، وبما يعيد للأذهان وعلى الفور أزمة مصادرة رواية الكاتب السورى حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر»، حين خرجت المظاهرات فى جامعة الأزهر آنذاك لطلبة لم يقرأوا الرواية، بل قرأوا مقالا تحريضيا ضدها!، وبما يقودنا إلى ما ما أسميته بـ«تديين الممارسة النقدية»، فكلنا يتذكر مصادرة كتاب المفكر والناقد طه حسين «في الشعر الجاهلي»، ومحاولة مصادرة كتاب «ألف ليلة وليلة» أحد أبرز جذور السرد فى العالم، والمصادرة الفجة التى حدثت أيضا مع الشاعر حلمى سالم وقصيدته شرفة ليلى مراد، التى تعرضت لقراءات متعسفة تحمل الصبغة الدينية من قبل متثاقفين ونقاد محافظين، خلطوا بين المعتقد الدينى وجماليات الكتابة، ونسوا أن الأدب ابن خيال جديد، ولا يحاكم وفق معايير أخلاقية أو دينية، وإنما يناقش عبر معايير جمالية مستمدة من الفن ذاته، ومن نظريات النقد الأدبى وتراكمها المعرفى الرصين عبر جهد خلاق لفلاسفة، ومفكرين، ونقاد ثقات.

وبعد.. إن الحرية سؤال الإبداع، وشرطه الأساسي، في مواجهة عالم قاسٍ، وموحشٍ، ومستبد.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية