x

طارق عباس الثورة.. المعنى والمصطلح طارق عباس الجمعة 01-01-2016 21:07


من المستحيل دراسة المجتمعات الإنسانية فى منأى عن أنساقها وظروفها المُشكِلة للفعل السياسى الثورى وكافة عوامله الداخلية والخارجية المصاحبة لتكوينه من لحظة الوجود إلى لحظة الانطلاق، فالفعل الثورى هو إفراز طبيعى لصراعات وتناقضات وتوترات وعمليات أخذ ورد بطريقة تسمح بإعادة تشكيل الوجدان الجمعى ودرجة الوعى بالواقع ونقلهما تدريجياً من مجرد الخضوع الاضطرارى للحاكم وتسلطه واعتماده على القوة فى فرض إرادته السياسية على المحكوم، إلى منتهى التمرد والتحدى لكل ما هو مأزوم، بدايةً من الاعتراض الفردى المحدود ومروراً بجماعات المعارضة ثم الحركات فالتنظيمات فالأحزاب فالاحتجاجات فالاعتصامات فالمظاهرات فالثورة، والتى يمكن اعتبارها خاتمةً لمرحلة سياسية ما وبداية لمرحلة جديدة ربما لا تكون أفضل من سابقتها إلا أنها تظل مختلفةً عنها ولو لفترة من الزمن تنطلق بعدها إما نحو تغيير جذرى وحقيقى لكافة المنظومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وإما رِدةً نحو الأسوأ وإعادة استنساخ ما سبق أن لفظته الثورة بسبب تصارع القوى السياسية المختلفة على ثمار لم يحِنْ أوان قطافها بعد.

إن الثورة فى الأساس هى محاولة للخروج على ثوابت فات زمانها وتَجاوُز حَتمى لأنظمة فاسدة رجعية، استولت على السلطة فترات طويلة ومارست كل أنواع البطش والقهر والديكتاتورية حتى أصابت العامة باليأس والإحباط والاستماتة فى الدفاع عن الماضى بدلاً من التفكير فى المستقبل، وأمام اتساع المدى الزمنى للإحباطات يتحول الكبت إلى انفجار والرضا إلى غضب والصمت إلى ثورة والشعوب المقهورة بالسلطان الحاكم نصف الإله إلى شعوب قاهرة للظلم ومرتكبيه مهما كانت قوتهم وقدرتهم على البطش، ولا شك أنه عبر تلك التحولات تدور عجلة حياة الشعوب وتُصنَع خصائصها السلوكية فى بناء مُجمَل محددات النشاط البشرى وكل ما يستتبعه من تعميق الطابع القومى للشخصية الفردية أو الطابع الفردى للشخصية القومية، كان أول من استعمل لفظة ثورة هو العالم الفلكى اليونانى «كوبر نيكوس» 1473 – 1543 م وذلك عندما أطلقها على الحركة الدائرية المنتظمة للنجوم حول الشمس، ومن خروج حركة النجوم هذه عن سيطرة الإنسان وقدرته على التحكم فيها أصبحت تلك اللفظة بمرور الوقت تعنى القيام بكل ما هو خارج على إمكانيات البشر ثم انتقلت بعد ذلك للدلالة على كل ما هو خارج على الحاكم ونظامه، ورويداً رويداً ترسخت الثورة كمصطلح سياسى باعتبارها تمرداً على الوضع القائم بحثاً عن وضع أفضل من أجل إحداث تغييرات عميقة فى النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانتفاض على كل ما هو قديم، لفتح أبواب المجتمع لكل ما هو جديد، سواء عن طريق الشعب ممثلاً فى كل أطيافه وطوائفه أو عن طريق الشعب والجيش معاً، أما إذا قامت السلطة الحاكمة أو جزء منها بتغيير نظام الحكم القائم كتعيين رئيس الجمهورية لنفسه أو تحويل النظام الملكى إلى جمهورى أو تعطيل البرلمان أو عزل بعض شخصيات السلطة واستبدالها بأخرى أو استيلاء الجيش على الحكم، فإننا فى هذه الحالة أمام انقلاب يفرض التغيير من أعلى.

إذن، الثورة صناعة شعبية بامتياز تولد من رحم الشعب ويرعاها الشعب ثم سرعان ما تنفجر من أجل مصلحة الشعب والحفاظ على مكتسباته، يقول كارل ماركس: (الثورة هى القانون العام لسير الطبيعة والمجتمع، والوسيلة الوحيدة لحل مشكلاته، خاصة فى الجانب الاقتصادى الذى يستند عليه وينبسق منه نظام المجتمع فى الوجوه الأخرى، السياسية، الاجتماعية، والأخلاقية)

وهو ما يعنى أنه لكى تنجح الثورة يجب أن تكون ثورة سياسية واجتماعية، حتى يمكنها تحقيق العدالة ونشر المساواة ومواجهة الإقطاع المالك للسلطة والنفوذ فى آن واحد، وهو ما أكده الماركسيون أن (لكل شعب ثورتان، ثورة سياسية يسترد بها حقه فى حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فُرِضَ عليه أو من جيش أقام فى أرضه دون رضاه، وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد)، وبتالى فهناك صلة وثيقة بين الثورة بمعناها السياسى والثورة بمعناه الاجتماعى فلا يمكن لأى فرد أن يُحدِث أى تغيير جذرى فى المجتمع إلا إذا سيطر على السلطة وأمسك مقاليد الأمور بيده، وغالباً ما تندلع الثورة السياسية قبل الثورة الاجتماعية وهذا ما ينطبق على معظم الشعوب المُستعمَرة حيث لا يمكن أن تقوم ثورة اجتماعية ما لم تسترد حقوقها من يد الدول المُستعمِرة، لذلك حرص الاستعمار على تأخير الثورات الاجتماعية من خلال تفننه فى إطالة أمد الثورات السياسية بخلقه للكثير من المشاكل المُفتعَلة لإلهائها وإدخالها فى منازعات لإبعادها عن تحقيق الثورة الاجتماعية كما كان الحال فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

إن الثورة بمعناها السياسى مجرد خطوة لتحقيق الثورة بالمعنى الاجتماعى، أما تغيير الأشخاص الحاكمين سواء عن طريق حركة شعبية أو عن طريق إحدى الهيئات الحاكمة دون أن يصحب ذلك تغيير اجتماعى فى حياة الشعب، فتلك مجرد حركة عنف بعيدة عن الشعب.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية