(1)
يمر العام، فننسى الكثير من أيامه، تبهت أحداث ووقائع، وتنتهي صراعات كنا نراها في ساعتها، ساخنة وفارقة، لكن الانطباعات العامة تدوم أكثر، لذلك اشغل نفسي بالتفكير في الحصيلة الإجمالية للعام، أهتم بالانطباع الذي يبقى ليرسم لي صورة عن سنة بعينها أو فترة بذاتها، ولما تأملت عام 2015 بكل مافيه من آمال وخيبات، توصلت إلى انطباعي الخاص.. إنه بالأدلة العقلانية والوجدانية: «عام السقوط»
(2)
السقوط.. كلمة مقبضة، لكنني مغرم بها دراميا، فهي على الأقل تعبر عن أملٍ كان، وعن شخصٍ كان واقفاً (وربما شامخا) لكنه تعثر لسبب ما.. وسقط، وهذا أفضل كثيرا من عدم السقوط، الذي قد يعني أن ذلك الأمل لم يوجد أصلا، أو لأن الشخص كان عاجزا ومشلولا منذ البداية، وبالتالي لم تتوفر له فرصة السقوط، ولا (طبعا) فرصة النهوض من جديد!
(3)
في هذه الأيام بالتحديد، حيث تتقارب البدايات مع النهايات، يعلو بداخلي الإحساس الدرامي بالسقوط، بل ويتضمن فرصة للصعود، ألم يسقط المسيح بغواية يهوذا، لكن سقوطه في يد الرومان تحول إلى باب للصعود والارتفاع؟.. ألم يسقط سبارتاكوس، وعمر المختار، وجيفارا، وأدهم الشرقاوي، وسالي زهران، وعماد عفت، ومحمد الجندي، وشيماء الصباغ؟.
(4)
لفظ السقوط هنا، يشعل شمعة الدراما والجدل: هل سقط هؤلاء الأبطال فعلا، أم سقط القاتل؟
(5)
في مستهل العام الموشك على الرحيل، سقطت وزارة الداخلية لما قطفت وردة شيماء الصباغ، ثم كذبت، واحتالت، وواصلت الانحراف في مواقف ومراكز واقسام عدة، من أكتوبر، إلى المطرية، إلى الاسكندرية، إلى شبين، إلى الأقصر، وفي الطريق سقطت أشياء كثيرة أخرى.. زفة المؤتمر الاقتصادي، مبالغات افتتاح القناة، شراكة 30 يونيو، أحلام هيكلة الشرطة وتطهير القضاء وتنظيم الإعلام، مجاملة أعظم دستور في تاريخ مصر، هيبة البرلمان، أمن المواطن داخل دولة قانون، الطائرة الروسية، وكان لابد بعد كل هذا السقوط أن تسقط شعبية نظام الاستقرار الواهم والاستثمار الغائم.
(6)
أتذكر الآن فيلما بعنوان «كلاب من قش» يدور حول دوامة العنف، التي تبرر استخدام القتل كوسيلة للهروب من القتل، والفيلم برغم طابع الأكشن المأخوذ من رواية جوردون ويليامز «حصار مزرعة ترنشر»، التي تأثرت بتقاليد التاويين في الصين القديمة، والتي تجنبت تقديم الكائنات الحية كقرابين للألهة، فكانوا يصنعون كلابا من القش ويقدمونها كقرابين، لكن هذا لم يمنع العنف والقتل في العالم.. الشرطي يعذب ويقتل مبررا ذلك بالحفاظ على النظام وأمن المجتمع، والمجتمع يهاجم الشرطة باسم الحرية، النظام يجند الشعب كله في «قشلاق كبير»، ويعامله بأوامر الضبط والربط، و«ما يصحش كده»، والشعب يرد بإشهار رغبته في اسقاط النظام (بكل دلالاته الاجتماعية والأخلاقية وليس السلطوية فقط)
عندما يحضر الانتقام بقوة، وتغيب الرؤية، يصبح العنف هو اللغة الرسمية، ففي إحدى معارك الفيلم الانتقامية يصاب أحدهم وتتحطم نظارة الزوج (داستين هوفمان) الذي يحاول إنقاذ الشاب الجريح فيضعه في سيارته وينطلق بها لتوصيله إلى منزله، فيقول له الشاب: لكنني لا أعرف أين بيتي!
يرد الأستاذ الجامعي: ولا أنا...!
فالبيوت الآمنة لا توجد حيث يستشري الانتقام والعنف المجنون.
(7)
لدي ملف ضخم يتضمن عشرات الأفلام العالمية التي تحمل عنوان «السقوط» بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، أختتم مقالي بمشهد من فيلم المخرج «جويل شوماخر» الذي يتعرض فيه البطل (وليم فوستر) لمشاكل ومضايقات كثيرة من الطبقات الانتهازية ومن الشرطة على السواء، لمجرد أنه كان في طريقه لحضور عيد ميلاد ابنته، ولما تبادل العنف مع ظالميه صار واحدا منهم، صار خارجا عن القانون هو أيضا، وفي هذا المشهد يحاول الشرطي إقناعه بتسليم نفسه، حتى لا يضطر لقتله، فيصرخ فوستر في وجه الشرطي ووجه المجتمع كله ووجهنا نحن ايضا:
«من الذي دفعني للسقوط؟ وأوصلني إلى هذه النقطة؟. لقد قمت بكل ما طلبته الدولة مني.. بنيت قواعد الصواريخ التي تحمي البلاد، وبدلا من تكريمي ذهب كل شيء إلى أطباء التجميل.. لقد كذبت الدولة علي»
يخفض الشرطي مسدسه وهو يقول له: لقد كذبوا علينا جميعا، إنهم يكذبون حتى على السمك، ويسرقون منا الشواطئ، لكن هذا لا يعطيك الحق أن تتورط في هذا العنف.
وينتهي المشهد بقتل الشرطي لفوستر، بعد ان أوهمه المواطن انه سيصوب عليه من مسدس لعبة كان بحوزة ابنته!
هكذا انتحر فوستر برصاصة الشرطي، ليحتال على القوانين ويضمن أن تصرف شركة التأمين تعويضا يضمن به مستقبل طفلته.
(8)
فهل يجب على هذا الجيل أن يسقط باختياره ليعطي فرصة حياة افضل للأجيال المقبلة؟
- أتمنى أن نعيش جميعا كبشر محترمين، لا وحوش قتل، ولا كلاب من قش.
وكل عام وأنتم بخير وأمن وسلام
جمال الجمل
[email protected]