x

سانت كاترين.. هنا كلَّم الله موسى

الجمعة 25-12-2015 22:09 | كتب: وائل ممدوح, عمر ساهر |
رحلة «المصري اليوم» لدير «سانت كاترين»، 25 ديسمبر 2015. رحلة «المصري اليوم» لدير «سانت كاترين»، 25 ديسمبر 2015. تصوير : أيمن عارف

وادى مقدس يقودك إلى مجمع أديان وتحوطهما الجبال من معظم الاتجاهات.. هكذا تبدو مدينة سانت كاترين التى تقع فى وسط محافظة جنوب سيناء على هضبة ترتفع عن سطح البحر بنحو 1600 متر، لكن مع كل خطوة على أرض المدينة المقدسة يتضح أنك لم تعرف عنها إلا القشور، ولم تر من سحرها إلا القليل.

الطريق المؤدى إلى المدينة لا يختلف كثيراً عن معظم طرق وسط وجنوب سيناء الجبلية، لكن بمجرد وصولك إلى مدخل سانت كاترين الرئيسى تقابلك لوحة تذكارية فى ميدانها الأكبر للقديسة التى ارتبط اسمها بالمدينة المقدسة بجوار قوله تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»، لتدرك وقتها أنك أمام مكان استثنائى، ويكمل الصورة اسم المسجد الرئيسى بوسط «سانت كاترين» والذى يحمل اسم مسجد «الوادى المقدس».

وعلى خلاف الجانب الأكبر من مزارات سيناء السياحية، تتميز سانت كاترين بكونها الوجهة الأولى فى مصر للسياحة الدينية، لضمها آثاراً تنتمى إلى الديانات السماوية الثلاث، لتصبح بذلك أكبر مجمع أديان على مساحة 5130 كيلو مترا مربعا، هى إجمالى مساحتها، إذ تضم إلى جانب جبل موسى، وحجر عيون موسى، ومقام النبى هارون، بالإضافة إلى دير سانت كاترين، أحد أقدم الأديرة فى العالم، والذى يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس الميلادى.

منازل المدينة البسيطة تبدو جزءا من اللوحة الفريدة التى تبدو الجبال فى خلفيتها بلا فاصل عن المنازل المبنية من صخورها، لتبدو وكأنها نبتت من قلبها واكتست بألونها المتدرجة بين الأخضر والبنى بمختلف درجاتهما، وينطبق الأمر نفسه على سكانها البسطاء الذين يستقبلونك بابتسامة واسعة وترحاب كبير، شأن من اعتاد على اعتبار زوارها ضيوفاً لا غرباء، بعيداً عن أى اعتبارات أخرى.

وتستقبل المدينة آلاف الزوار من مختلف الجنسيات على مدار العام، يتوافدون لزيارة الدير الشهير، وصعود جبل موسى، والاستمتاع بجمال الطبيعة فى المحمية التى تمتد على مساحة المدينة بالكامل، لتصبح بذلك أكبر محمية طبيعية فى مصر، والتى يفاجئك حرص سكانها الرئيسيين من أبناء قبيلة الجبالية على حمايتها باعتبارها جزءا من الأرض التى يسكنونها منذ مئات السنين.

«موسى» ليس اسم الجبل الشهير فى المدينة فحسب، بل هو اسم يحمله عدد كبير من أبناء الجبالية، يطلق الاسم على أحد أبناء كل بيت، ويتكرر فى لقب كل شخص مرة على الأقل. ويرتبط الجبالية بعلاقة فريدة مع رهبان دير سانت كاترين والكنائس، قائمة على الاحترام والتعاون، فمعظم أبناء القبيلة الذين ستقابلهم عملوا فى الدير خلال فترة من حياتهم، ومن لم يعمل هناك بشكل مباشر لابد وأنه عمل متطوعاً لصالح الدير فى وقت من الأوقات، أو استفاد بالخدمات التى يقدمها الدير لأهالى المدينة دون مقابل، لتتأكد أنك أمام نموذج غير تقليدى للتسامح والتعايش.

محمد سالم سليمان، أحد أبناء قبيلة الجبالية، ومالك أقدم كافيتريا فى المدينة، قال إن سكان المدينة لا يرون علاقة المودة والاحترام التى تجمعهم برهبان الدير اليونانيين أمراً غريباً، فهى الأجدر بسكان أرض موسى وقف على ترابها النبى موسى- عليه السلام- عندما تجلى الله له وخاطبه. وقال إن أرض سانت كاترين هى المقصودة فى قوله تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ»، مشيراً إلى أن الطور فى اللغة هو الجبل المرتفع، والمقصود به جبل موسى، وفقاً لتفاسير مختلفة، على حد قوله.

وتابع: «عندما زار الشيخ الشعراوى سانت كاترين فى الثمانينيات، خرجت المدينة بالكامل لاستقباله عند منطقة مقام النبى هارون، وفوجئنا بإيقافه السيارة التى كان يستقلها ونزوله عنها خالعاً نعليه، وعندما سألناه عن السبب قال (هذه أرض مقدسة)».

وقال سليمان الذى يملك أحد المخيمات السياحية الشهيرة فى المدينة إن السياحة هى النشاط الرئيسى فى سانت كاترين، إذ يعمل بها معظم الأهالى، مشيراً إلى أن زيارة المعالم المقدسة لم تتوقف حتى خلال فترة الاحتلال الإسرائيلى، وأضاف: «من الصعب أن تجد مكاناً آخر يضم آثاراً تنتمى للديانات السماوية الثلاثة، لذلك نستقبل زواراً من معظم بلاد العالم ومن ديانات مختلفة».

وأشار سليمان إلى أن حركة السياحة فى المدينة تتأثر بالأحداث السياسية والوضع الأمنى، لكنها تعود دائماً إلى سابق وضعها، وتابع: «سانت كاترين كنز مدفون محدش بيعرف عنه»، مشيراً إلى أن المدينة فى حاجة إلى الاهتمام الإعلامى وتسليط الضوء على معالمها الفريدة، لتتحول إلى مقصد للسياحة الداخلية بجانب السياحة الخارجية، وقال: «ليس من المنطق أن يكون الأجانب أعلم بقيمة سانت كاترين من المصريين».

يؤكد على كلام سليمان دليل من أبناء قبيلة الجبالية يدعى فرج فرح صالح، ويروى عن بدايات عمله داخل الدير فى عمر 11 عاماً، ثم انتقاله للعمل كـ«جمال»، بعد أن اشترى جملاً ليستخدمه فى نقل الزوار والأمتعة بين أرجاء المدينة، والصعود بهم إلى جبالها التى يحفظها عن ظهر قلب، قبل أن ينتقل للعمل كدليل للزوار الراغبين فى صعود جبال المدينة.

يضيف فرج الذى لا تفارق الابتسامة وجهه: «نعمل جميعاً فى السياحة، ونتأثر بتراجعها، لكن الرزق لا ينقطع طالما نسعى فى طلبه». ويتابع: «عملت فى مهن مختلفة، آخرها بناء المنازل من أحجار الجبل». ويشير الجمال الشاب إلى الجبال المحيطة معدداً أسماءها وأوصافها: «هذا جبل كاترين، أعلى الجبال فى مصر، وذلك جبل عباس باشا، الذى اختاره الخديو إبراهيم عباس باشا لبناء قصر استشفاء أعلى قمته، بعد أن نصحه أطباؤه بالبحث عن موقع للهواء النقى، فاستقر على قمة هذا الجبل عقب اختبار لعدة مناطق بوضع قطع من اللحم النيئ فى الهواء، فلم تفسد على قمة هذا الجبل فقط».

ويتابع فرج: «أعلى الجبل توجد آثار قصر عباس الذى لم يكتمل بناؤه بسبب موته، وهو الجبل المرتفع الوحيد الذى يمكن أن تصعد إلى قمته بالجمال لأن مهندسى الخديو مهدوا الطريق إليه ليتمكن من صعوده بسيارته بعد انتهاء بنائه».

ينتقل الدليل الشاب إلى الجانب المقابل لجبل عباس، حيث جبل الصفصافة، نسبة إلى شجر الصفصاف المنتشر فى وديانه، ثم يشير فى اتجاه وادى الأربعين، حيث طريق جبلى سانت كاترين وموسى، ويقول: «كما ترى المدينة محاطة بعشرات الجبال، لكن الزوار يقصدون جبل موسى لأهميته الدينية، وسانت كاترين لأنه الأعلى فى مصر».

ويروى فرج حكايات زوار سانت كاترين التى ينتهى بعضها بزيارات دورية من أجانب يعددهم بالاسم، مثل مارتينا، إيطالية الجنسية التى تزور المدينة سنوياً وتبقى لعدة أسابيع، بالإضافة إلى بعض المقيمين الذين سحرتهم المدينة فقرروا البقاء فيها، مثل الخواجة كوزموس الألمانى الذى يعيش فيها منذ نحو 10 سنوات. ويتابع: «الأمر لا يقتصر على الأجانب، هناك مصريون من محافظات أخرى تعلقوا بالمكان وقرروا البقاء فيه وافتتحوا مشاريع تجارية تدر عليهم دخلاً ليس بالكبير، لكنه كاف لبقائهم هنا».

الشيف محمد أحد سكان سانت كاترين الوافدين، بعد رحلة استمرت لنحو 20 عاماً فى أوروبا بين إيطاليا وألمانيا والدنمارك، ليستقر فى النهاية بهولندا، قبل أن يقرر العودة لمصر وينتقل للعمل بسانت كاترين منذ عام 2010 «قررت أعيش هنا، فى البداية اشتغلت شيف فى كامب وبعدين قررت أفتح مطعم وأكمل اللى باقى من عمرى فى البلد دى».

يحكى الشيف محمد الذى ولد ونشأ فى الإسكندرية، عن علاقته بأبناء سانت كاترين «ناس طيبين وتعرف تتعامل معاهم»، مشيراً إلى أنه بحكم عمله وسفره قابل الكثيرون فى الدول التى زارها، لكنه لم يجد مثل أهل المدينة فى التعايش واحترام الآخر، ويضيف: «قررت أموت واتدفن هنا، مش هلاقى أرض أجمل ولا أطهر من دى».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية