قالت لى عائلة اللواء عمر سليمان: إن الرئيس الأسبق للمخابرات العامة المصرية.. قد فوجئ بالتوجُّهات الصَّادمة للوطنيَّة المصرية.. فى أحاديث الأستاذ محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة، وإنه طلب الأستاذ هيكل عبر الهاتف وأبلغه انزعاجه الشديد من مضمون الرسائل التى يحملها برنامج «مع هيكل».
وكان من بين ما قال: «إن الحلقات تطعن فى ثوابت الوطنية المصرية، وتشكك فى بطولات الشعب والجيش.. وتحطُّ من شأن الدولة أمام أعدائها فى الداخل والخارج».
(1)
كان كثيرون فى مصر ضدَّ أن يظهر الأستاذ على شاشة قناة الجزيرة الاستعمارية.. والتى يعلم هو قبل غيره أنها الأداة الإعلامية للاستعمار الجديد.. ولا يعدو دور القائمين عليها سوى ضمان الكفاءة الفنية.. من نقاء الصورة.. إلى مساحة الاستوديو.. إلى مستوى الصوت والإضاءة.. ولا مزيد!
وقد كنتُ واحدًا ممن طلبوا من «الأستاذ» قبل الظهور.. عدم الظهور. وحين أبلغتُ الأستاذة هديل غنيم، التى كانت تعمل مع «الأستاذ» فى ذلك الوقت.. أن تُبلغ رسالتى له. عادتْ وقالت لى: إن «الأستاذ» يريد منك أن تكتب رسالة إليه بهذا المعنى. ولمَّا لم أفعل ذلك.. عادتْ «هديل» – وكلانا من خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – لتقول لى: إن «الأستاذ» سألنى عن رسالتك من جديد.. ما المانع أن تصوغ رؤيتك فى ورقة أوليَّة أُعطيها للأستاذ.. ثم يمكنك أن تتوسع فى رأيك فيما بعد.
أرسلت رأيًا من ثلاث صفحات إلى الأستاذ.. أشرح له رؤية «باحث شاب» فى العلوم السياسية.. وكان عنوانها: لماذ لا ينبغى الظهور على شاشة الجزيرة؟.. وظَنِّى أن الأستاذ لا يزال يحتفظ بنسخةٍ منها.
(2)
مَضَى «الأستاذ» فى طريقه.. يهدم ما يرى ويطعن من يشاء. ومَضَتْ وراءه قناة الجزيرة تعيد إنتاج الهدم.. مقاطعَ ومقتطفاتٍ وإعلانات. وتحت أضواء الكاميرات الباهرة.. مرَّت الرسائل التى أرادها «الأستاذ».. مدعومةً بجاذبية الحديث، وسِحْر الحكىْ.. وسطْوة السيرة الذاتية.
(3)
أودُّ أن تكون هذه الوقفة.. أمام واحدةٍ من أخطر مقولات الأستاذ.. وأعظمها خطرًا على الأمن القومى المصرى.. تحدث «الأستاذ» عن تأميم قناة السويس عام 1956.. وكانت الصَّدمة.
قام «الأستاذ» بالتفرقة بين «شركة قناة السويس» و«مرفق قناة السويس».. وقال: إن قرار تأميم قناة السويس يختصُّ بشركة القناة وحدها، ولا يخصُّ مرفق القناة. وعلى ذلك فإن الشركة تم تأميمها، ولكن المرفق هو مرفق دولى.. يخضَع للسيادة الدولية بموجَب اتفاقية القسطنطينية!
(4)
تحدَّث الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حلقة يوم (7) فبراير 2008، ثم كرَّر حديثه فى حلقة يوم (14) فبراير 2008.. وكان رأيه كالتالى: «عقد امتياز قناة السويس كان سينتهى فى عام 1968، ومصر بدأت تُعد نفسها لاستلام قناة السويس، وكان هناك بعد الثورة مكتب لقناة السويس»..
«ولكن عند ناس كثيرين.. هناك خلط بين قناة السويس وشركة قناة السويس.. والذى سيعود فى 1968 ليس قناة السويس، لكن شركة قناة السويس.. لأن الامتياز سينتهى.. أما إدارة قناة السويس بعد نهاية عقد الامتياز فتبقى فى أيدٍ دوليَّة.. بموجب اتفاقية القسطنطينية».
ثم وصل عِلم «الأستاذ» مبلغَه.. فقال مؤكدًا حق الأجانب فى إدارة قناة السويس.. وعدم أحقيَّة مصر فى السيادة المنفردة عليها: «إن المادة (14) من اتفاقية القسطنطينية تقول: اتفقت الدول المتعاقدة.. على أن التعهُّدات المبيَّنة فى هذه الاتفاقية.. غير محدَّدة بمدة الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس العالمية».
وهو ما يعنى فى رأى «الأستاذ».. أن القانون الدولى بموجب المعاهدة المذكورة لا يمنح مصر حق السيادة على القناة.. حتى لو بعد التأميم أو نهاية الامتياز.. ذلك أن هذا يخصُّ الشركة.. ولا يخصُّ القناة.. فالشركة لمصر، والقناة للأجانب.. ومن ثم.. فإن قيام مصر بالسيادة المنفردة على مرفق قناة السويس.. هو وضعٌ مخالف للقانون الدولى!
(5)
يا لهولِ الصدمة.. ما الذى يقوله الأستاذ؟.. لقد بدأ بالحطِّ من شأن قرار الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم القناة.. ولقد حطَّ من شأنه مرتين.. مرةً لأن الامتياز كان سينتهى بعد سنوات، ولم يكن بالتالى هناك أى داعٍ لقرار التأميم الذى كلف مصر حرب 1956.
ومرةً ثانيةً.. لأن قرار التأميم كان «اقتصاديًّا» يخصُّ شركة القناة.. ولم يكن «سياديًّا» يخص إنهاء النفوذ الأجنبى فى البلاد.. ذلك أن القرار برأى «الأستاذ» لا ينهى الوجود الأجنبى الذى يكَفُلُهُ القانون الدولى!
(6)
يا لهولِ الصدمة – من جديد – فالأستاذ لم يتورَّط فى حديثٍ على الهواء.. إنه حديثٌ مسجل كان يمكن أن يحذف منه ما يشاء، بل إنه لم يستجِب لمن أرسلوا له باسم «العِلم» و«القانون» و«الوطنية» يردُّون على أقواله المفزِعة.. بل قام بتسجيل حلقةٍ ثانية.. فيها تكرارٌ وتأكيد!
(7)
لقد تفضَّل أستاذ القانون الدولى البارز الدكتور على الغتيت.. فأَبَانَ الجوانبَ القانونيةَ للأمر.. ونشر مقالاً ضَافيًا فى الأهرام بتاريخ 6 مارس 2008.. قام فيه بتفنيد ما قاله الأستاذ. ولقد أرسل الدكتور الغتيت خطابيْن لقناة الجزيرة ولكنها لم ترد، ثم أرسل خطابًا للأستاذ هيكل.. ولكنه رفض الإشارة إليه!
كان رأى أستاذ القانون الدولى.. أن كلام «هيكل» يمسُّ السيادة المصرية فى الصميم، فى ظل مؤامرة دولية تجرى الآن فى الظلام، وتستهدف قناة السويس.. كهدف استعمارى أصيل.
وحسب الدكتور الغتيت.. فلقد تكونت – فى وقت حديث هيكل – شركة فى باريس أسَّسَها أحفاد «فرديناند ديليسبس».. «تستهدف استعادة قناة السويس من المصريين.. ومن المؤسف أن لهذه الشركة وكلاء يعملون لحسابها فى السِّر والعلن»!
(8)
كان حديث الأستاذ هيكل خارجَ نطاق العِلم.. ولقد أسْهَبَ الدكتور الغتيت فى توضيح الرأى العلمى طبقًا للقانون الدولى.. ولقد ظهر معه مدى محدوديَّة إلمام الأستاذ بمبادئ القانون الدولى.. وفِقه المعاهدات الدولية، كما ظهر معه مستوى «القراءة الإعلامية» لا مستوى «القراءة العلميَّة» لمعاهدة القسطنطينية.
(9)
لا تتعلق المادة (14) بأى حالٍ من الأحوال بما ذهب إليه «الأستاذ»، وإنما تتعلق بتعهُّد مصر بضمان حرية الملاحة.. وهو تعهُّد لا صفةَ لصدورِه إلا ممَّن يملكُ السيادة.
وتقوم معاهدة القسطنطينية على تأكيد سيادة مصر على قناة السويس وانفرادها بإدارتها، ولا ينازعها فى ذلك منازع.. فالسيادة على قناة السويس – وطبقًا لأحكام القانون الدولى – بقيت كاملة وغير منقوصة، ولا تشوبها شائبة.. ولا ينال من هذه السيادة التعهدات التى التزمتْ بها مصر فى اتفاقية القسطنطينية، وهى لضمان حرية الملاحة فحسب.
ويجد المتخصصون فى مقال الدكتور الغتيت شرحًا وافيًا.
(10)
كان الصواب أن يقفَ الأستاذ هيكل مع حقِّ السيادة المصرية على قناة السويس.. حتى لو كان ذلك مخالفًا للقانون الدولى.. فليس فى الوطنية رأىٌ ورأىٌ آخر.
ولكن «الأستاذ».. اختارَ أن يبحثَ عن حقوقٍ واهيةٍ للاستعمار، وأن يطمِسَ حقوقًا راسخةً للوطن.. انتصرَ «الكاتب الكبير» للسيادة الأجنبية ضدَّ السيادة الوطنية.. وحين كان الاختيار بيْننا وبينهم.. اختارَ «الأستاذ» أن يكونَ فى الجانبِ الآخر!
حفظ الله الجيش .. حفظ الله مصر.