x

جمال الجمل امرأة تشتري كلبًا (حكايات من زمن المهرجانات-1) جمال الجمل الإثنين 21-12-2015 15:16


لا أعرف لماذا سيطر هذا العنوان على عقلي تماما، وأنا أفكر في وضع حجر من الألماس على قبر كاتب بائس، مات في مثل هذا اليوم قبل 75 عاما؟

العنوان في الصياغة الأولى كان: امرأة خائنة تشتري كلبا (حكايات من زمن الجاز)، فالمهم بالنسبة لي هو المرأة وليس الخيانة، وبالتحديد التأريخ للزمن الذي بدأت فيه المرأة تطلب بدلال شراء كلب، أما «زمن الجاز» فهو التسمية التي أطلقها الأديب الأمريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد على عصر الرواج الصناعي والتجاري الخادع الذي عاش فيه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في عشرينيات القرن الماضي، حيث ظهر أغنياء الحروب، وانتعشت التجارة المشبوهة وصناعة الرفاهية، وما جاءت به من السعي المحموم للمظاهر الاستعراضية والإشباع الحسي، وسلوكيات الاستهلاك التي بدأت تقاس بقدرة الفرد على امتلاك مخترعات حديثة كالسيارة والتليفون، والسفر بالطائرة، ومجاراة صرعة «الفلابر» التي دشنت سلوك المرأة المتمردة على التقاليد، في زمن سيطرت عليه المتع الرخيصة وموسيقى الجاز.

ولما كانت هذه الفترة تشبه أحوال مصر في منتصف السبعينات بعد حرب أكتوبر وبعد سياسة الانفتاح الاستهلاكي، فقد غيرت العنوان إلى «زمن المهرجانات» للإيحاء بوجود صلة ما، بين الأجواء والسلوكيات التي صاحبت انتشار موسيقى الجاز في أمريكا في تلك الفترة، وبين شيوع موسيقى المهرجانات في مصر خلال العقد الأخير.

أما قصة المرأة التي تشتري كلبا فهي مأخوذة من المشهد الأكثر بقاء في ذاكرتي من رواية (وفيلم) «جاتسبي العظيم»، خاصة النسخة التي كتب لها السيناريو فرانسيس فورد كوبولا، وأخرجها جاك كلايتون عام 1974، حيث تطل ميرتل من خلف نافذة سيارة الأجرة فترى رجلا يبيع الكلاب أمام محطة قطار نيويورك، فتدق بيدها على الزجاج الأمامي الذي يفصلها عن السائق، وتخاطب عشيقها توم الأرستقراطي المتغطرس الذي يجلس بجوارها: أريد واحدًا من هذه الكلاب، أريد كلبا لشقتي، فمن الجميل للمرء أن يكون عنده كلب!

عادت السيارة، حيث يقف البائع العجوز الذي يشبه (بشكل كاريكاتوري مشوه) رجل الصناعة الأمريكي الشهير جون روكفلر، كان البائع يحمل سلة مربوطة في رقبته وبداخلها دستة من الجراء (الكلاب الصغيرة)، سألته ميرتل بشغف:

* أي الأنواع لديك؟

- قال البائع: كل الأنواع.. أي نوع تريدين يا سيدتي؟

* أريد كلبا بوليسيا، هل لديك واحدًا من هذا النوع؟

ارتبك البائع قليلا، ثم مد يده داخل السلة، وشد جروا من عنقه، وهو يقول: هذا هو.. تفضلي.

نظر توم إلى البائع بازدراء وقال: هذا ليس كلبا بوليسيا.

- قال البائع باحتيال وخجل: نعم.. نعم، إنه ليس بوليسيا بالضبط، لكنه من كلاب الصيد الجيدة، انظري إلى شعره الكثيف، الفروة مثل معطف بني ثقيل لن تجعله يصاب بالبرد.

* قالت ميرتل بحماس: إنه رائع ويعجبني، كم ثمنه؟

- قال البائع بمبالغة مترددة: هذا الكلب.. هذا الكلب ثمنه 10 دولارات.

مدت ميرتل يدها وأخذت الكلب، ووضعته على حجرها وهي تداعب فروته الكثيفة بتصنع، وتسأل في دلال: هل هو ذكر أم أنثى؟

- قال البائع: الكلب؟!.. إنه ذكر، و...

قاطعه توم منفعلا: إنها كلبة عاهرة، خذ نقودك واذهب لشراء عشرة كلاب أخرى بها لتحتال بها على غيرنا.

في شقة المتعة الصغيرة، بالغت ميرتل في العناية بالكلب وأرسلت لشراء الطعام الخاص به، وتوافد الأصدقاء وبدأوا في شرب الخمر، والثرثرة الفارغة عن كل شيء السيارات.. التليفونات.. طلاء الأظافر، الحب والزواج والخيانة، وبعد ساعات عانى فيها الكلب من دخان السجائر والإهمال، وقف توم مخمورا بعد منتصف الليل ليلقى خطبة علنية يحذر فيها عشيقته من نطق اسم زوجته ديزي، وعاندته ميرتل زوجة صاحب ورشة السيارات البائس جورج ويلسون وصاحت: ديزي.. ديزي، سأتحدث عنها وقتما أريد: ديزي.. ديز....

فجأة وجه توم لكمة سريعة إلى أنفها، فسالت الدماء غزيرة وسط ارتباك المخمورين!

لم أتذكر شيئا عن الكلب بعد هذا المشهد، والبديهي أنه لم يستمر في هذه الحياة غير الصالحة، بدليل أن ميرتل احتفظت بطوق عنق الكلب وهو من الجلد الفاخر المرصع بالفضة، وخبأته ضمن أشيائها الخاصة في بيت الزوجية، ولما اكتشفه زوجها جورج تأكد من خيانتها له، ومصاحبتها لرجال الطبقة الثرية الذين يهتمون بمثل هذه التصرفات، وينفقون على الكلاب ببذخ، في حين أنه لا يستطيع أن يوفر الطعام لنفسه.

كانت ميرتل تقيم مع زوجها قرب مقلب نفايات كبير على الطريق الواصل بين قصور الساحل الشمالي ومدينة نيويورك، وكانت تكره حياتها التعيسة المنبوذة في هذا المكان القذر، وتخطط للهروب إلى نيويورك، لكن شيئا في أعماقها كان لا يشجعها على هذه الخطوة، ربما لأنها تعرف أن رجال هذه الطبقة لن يوفروا لها حياة كريمة دائمة، بل يستهلكونها في حفلاتهم ونزواتهم دون أدنى اعتبار لمشاعرها وأحلامها؟، ولذلك عندما صدمتها سيارة جاتسبي المسرعة التي كات تقودها ديزي حبيته السابقة وزوجة غريمه توم، لم يأبه أحد لحياتها سوى زوجها جورج الذي أصيب بنوع من الوساوس والاختلال، وظل يبحث عن القاتل للثأر منه.

ولما قال له صديقه ميخائيل إنها مجرد حادثة، قال بإصرار: لا.. إنها جريمة قتل، أنا واحد من الناس البسطاء الطيبين الذين لا يضمرون شرا لأحد، لكنني حينما أصمم على معرفة الحقيقة لابد أن أعرفها، لقد قتلها ذلك الرجل الذي جرت نحوه عندما مر بالعربة، ولم يتوقف لها، لقد عادت من نيويورك بكدمة في وجهها وتورم في أنفها، فقلت لها ناصحا: الله يعرف ماذا كنت تفعلين، كل ما كنت تفعلين، يمكنك أن تستغفلينني، لكنك لن تستطيعي خداع الرب.

ولما كان جورج يشك في عشيقها توم، فقد ذهب إليه مهددا، ورأى توم في عينيه جنون القتل، فأخبره بخبث نصف الحقيقة (السيارة الصفراء ملك جاتسبي) ولم يقل لها النصف الذي يعرفه جيدا، وهو أن ديزي هي التي كانت تقود، وهي التي مرت بالعجلات فوق جسد ميرتل دون أن تتوقف لتطمئن، وانطلق جورج إلى قصر جاتسبي العظيم، حيث أطلق عليه النار، ثم أطلق رصاصة على نفسه، فيقتل جانبا كبيرا من الحقيقة الضائعة في زمن الجاز.. زمن المهرجانات

والقصة مستمرة..

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية