استعرضنا فى الجزء الأول من هذا المقال، الذى نوجهه إلى مجلس النواب الجديد لكى تتضح أكثر أمام أعضائه المحترمين الملامح الرئيسية لتنظيم الصحافة والإعلام بالدستور، المواد التى وضعت قواعد حرية الصحافة والإعلام والتعبير للمصريين عموماً وللصحفيين والإعلاميين خصوصاً، ويبدو من هذه المواد الأربع أن هناك قواعد جديدة غير مسبوقة فى التاريخ الدستورى والتشريعى المصرى قد تم وضعها فى الدستور، وأبرزها:
أولاً: أن حلم إصدار الصحف بمجرد الإخطار، والذى طالت المطالبة به فى مصر خلال الأعوام الستين الأخيرة، قد تحقق أخيراً، حيث جعلت المادة (70) للمصريين كافة من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمى.
ثانياً: أقر الدستور للمرة الأولى الأشكال الجديدة للصحافة والإعلام وأعطى لها المشروعية الدستورية، وعلى رأسها الصحافة الإلكترونية والإعلام الإلكترونى والرقمى، ومنحها حق الوجود والتنظيم القانونى.
ثالثاً: حظر الدستور للمرة الأولى فى التاريخ الدستورى المصرى، وبشكل مطلق ولو حتى بحكم قضائى، فرض مصادرة أو وقف أو إغلاق جميع الصحف ووسائل الإعلام المصرية، لتكون المادة الوحيدة فى كل دساتير العالم تقريباً التى تنص على هذا الحظر المطلق. وحظرت المادة أيضاً فرض الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام عموماً، وجعلتها واردة استثناءً فى زَمن الحرب أو التعبئة العامة.
رابعاً: أتت الفقرة الثانية من المادة (71) لكى تتوج نضال المصريين الطويل، وفى مقدمتهم الصحفيون، لإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، بل وتضيف إليه العلانية، حيث نصت على ألا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بكل طرق النشر أو العلانية، والتى لا تقتصر على الصحفيين والإعلاميين، بل تشمل جميع المواطنين، بينما استجابت للمنطق القانونى والحفاظ على الأرواح والقيم المجتمعية المستقرة ووحدة فئات المجتمع وطوائفه، لكى تترك للقانون تحديد العقوبات الخاصة بالجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد.
خامساً: للمرة الأولى فى أى وثيقة دستورية مصرية، أتت المادة (72) لكى تلزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام، الأمر الذى يخرج الصحف ووسائل الإعلام العامة المسماة القومية من سيطرة الحكومات عليها والانحياز لها ويجعل من هذا مخالفة صريحة للدستور تستوجب المساءلة والمحاسبة القانونية.
سادساً: وضعت المادة (68) الأساس الدستورى للمرة الأولى لتنظيم مجال المعلومات وحرية الحصول عليها للمواطنين عموماً وللصحفيين والإعلاميين خصوصاً وألزمت الدولة بهذا، وتجاوزته لكى توجب أن يضع القانون الخاص بحرية تداول المعلومات عقوبات حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمداً من المسؤولين عنها.
هذه هى المواد التى أسست للحريات الصحفية والإعلامية فى دستور البلاد والتى لا تكتمل مضامينها سوى بالمواد الأخرى التى وردت فى الدستور أيضاً ووضعت أسس التنظيم الجديد للمجال الصحفى والإعلامى والتى ستستند إليها جميعاً التشريعات القانونية التى سيقوم مجلس النواب بإصدارها لكى يطبق ما جاء بالدستور فى واقعنا العملى. وسيكون موضوع الجزء الثانى من هذا المقال هو مواد الدستور التى تحدد ملامح الكيانات الجديدة التى سيناط بها تنظيم الصحافة والإعلام فى مصر.
وفى هذا الجزء الثانى نتطرق إلى المواد الثلاث الأخرى التى وردت فى الباب الخامس من الدستور «نظام الحكم» وبالتحديد فى الفصل العاشر منه، والتى حددت الجهات الثلاث التى سيناط بها تنظيم المجالين الإعلامى والصحفى فى مصر خلال السنوات القادمة، وهى المواد التالية:
المادة (211)
«المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفنى والمالى والإدارى، وموازنتها مستقلة.
ويختص المجلس بتنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئى، وتنظيم الصحافة المطبوعة، والرقمية، وغيرها.
ويكون المجلس مسؤولاً عن ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية، ومراقبة سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، ووضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومى، وذلك على الوجه المبين فى القانون.
يحدد القانون تشكيل المجلس، ونظام عمله، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيه.
ويُؤخذ رأى المجلس فى مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عمله».
المادة (212)
«الهيئة الوطنية للصحافة هيئة مستقلة، تقوم على إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة وتطويرها، وتنمية أصولها، وضمان تحديثها واستقلالها، وحيادها، والتزامها بأداء مهنى، وإدارى، واقتصادى رشيد.
ويحدد القانون تشكيل الهيئة، ونظام عملها، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيها.
ويُؤخذ رأى الهيئة فى مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عملها».
المادة (213)
«الهيئة الوطنية للإعلام هيئة مستقلة، تقوم على إدارة المؤسسات الإعلامية المرئية والإذاعية والرقمية المملوكة للدولة، وتطويرها، وتنمية أصولها، وضمان استقلالها وحيادها، والتزامها بأداء مهنى، وإدارى، واقتصادى رشيد.
ويحدد القانون تشكيل الهيئة، ونظام عملها، والأوضاع الوظيفية للعاملين فيها.
ويُؤخذ رأى الهيئة فى مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عملها».
ويبدو من صياغة هذه المواد الثلاث أنها تضع أسساً جديدة معظمها غير مسبوق فى التاريخ التشريعى أو الواقعى المصرى فى تنظيم الصحافة والإعلام، وتتضح هذه الأسس على النحو التالى:
أولاً: أن المادة (211) قد أسست للمرة الأولى فى تاريخ التنظيم الصحفى والإعلامى فى مصر كياناً قانونياً جديداً هو «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» لكى يسند إليه بحسب نصها الانفراد بتنظيم كل شؤون الصحافة والإعلام بكافة صورهما وأشكالهما فى مصر، وهو الكيان الذى توجد له نظائر فى الغالبية الساحقة من الدول الديمقراطية فى العالم.
ثانياً: أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وبحسب نص الدستور يجب أن يكون مستقلاً ومتمتعاً بالشخصية الاعتبارية، وفصلت المادة فى هذا الاستقلال لتتحدث عن استقلاله الفنى والمالى والإدارى، وأن تكون موازنته أيضاً مستقلة. وهذا الإصرار والتكرار فى الدستور على استقلال هذا المجلس يعكس أهميته القصوى فى تنظيم الصحافة والإعلام فى البلاد وضرورة ألا يخضع لأى جهة فى الدولة أو المجتمع اللذين يقوم بالنيابة عنهما بالإشراف على شؤون الصحافة والإعلام كلها.
ثالثاً: أن اختصاصات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تتسع لتشمل قبل كل شىء ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها، وهو تطبيق ما ورد فى المواد السابق الإشارة إليها فى باب الحقوق والحريات والواجبات العامة. كما تمتد صلاحيات المجلس فى مجال تنظيم الصحافة والإعلام لكى يمنع الممارسات الاحتكارية، ويراقب سلامة مصادر تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية، ويضع الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام الصحافة ووسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومى. ويعنى كل هذا أن المجلس سيكون مسؤولاً عن عملية التنظيم للمجالين الصحفى والإعلامى بأكملها منذ تأسيس وإنشاء المؤسسات الصحفية والإعلامية ومروراً بممارساتها كلها وانتهاءً بضمان التزامها بالأصول المهنية وأخلاقياتها.
رابعاً: أنشأ الدستور فى المادتين (212) و(213) للمرة الأولى منذ نحو خمسة وخمسين عاماً هيئتين جديدتين لتنظيم وإدارة الصحف ووسائل الإعلام المملوكة للدولة. ففى المجال الصحفى، ألغى الدستور المجلس الأعلى للصحافة الذى كان ينوب عن الدولة فى ملكية وإدارة المؤسسات الصحفية القومية الثمانى والتى قامت منذ تأميم الصحافة الخاصة عام 1960 وأنشأ بدلاً منه «الهيئة الوطنية للصحافة». وفى مجال الإعلام المرئى والمسموع، ألغى الدستور اتحاد الإذاعة والتليفزيون ومعه وقبله وجود وزارة خاصة بالإعلام يناط بها إدارة وسائل هذا الإعلام المملوك للدولة، وأنشأ بدلاً منهما «الهيئة الوطنية للإعلام».
خامساً: أن الدستور قد حرص فيما يخص الهيئتين السابقتين على أن تكونا مستقلتين وأن تلتزما فى إدارتهما للمؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة بتطويرها، وتنمية أصولها، وضمان تحديثها واستقلالها، وحيادها، والتزامها بأداء مهنى، وإدارى، واقتصادى رشيد، بما يضع أسساً فى القانون المنظم لعملهما، ليس فقط للقيام بهذا العمل، بل وأيضاً لمحاسبتهما على أدائه وفقاً لما نص عليه الدستور من مواصفات له.
سادساً: أن الدستور فى إنشائه للكيانات الثلاثة التى تضطلع بتنظيم المجال الإعلامى والصحفى فى مصر، قد حرص على أن تكون الاختصاصات المنوطة بكل منها واضحة ومحددة وغير متداخلة، بما يعطى لكل منها استقلاله التام فى حدود مهمته ويتيح تنظيماً فعالاً ودقيقاً للصحافة والإعلام. فالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هو الكيان الأعلى المنظم والمشرف على كافة وسائل وأشكال الصحافة والإعلام فى مصر وليس له أى علاقة بإدارة أى منها سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص أو للأحزاب السياسية. أما الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، فهما مختصتان فقط بإدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة، وليس لأى منهما أى شأن أو اختصاص بالصحف ووسائل الإعلام المملوكة لغيرها، سواء فيما يخص تأسيسه أو الترخيص له أو ممارساته، فكل هذا خاضع فقط بما فيها المؤسسات التابعة للهيئتين نفسهما للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام دون غيره.
وبعد صدور الدستور بنحو ستة شهور، بدأت جهود الجماعتين الصحفية والإعلامية لتحويل تلك النصوص الدستورية غير المسبوقة فى التاريخ الدستورى المصرى إلى تشريعات قانونية. فقد بادرت نقابة الصحفيين منذ شهر يونيو 2014، بالتشاور مع أبناء المهنة ورموزها والهيئات الممثلة للصحافة المصرية وممثلى كل وسائل الإعلام المصرى، بتشكيل «اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية» التى أنيط بها دون غيرها وبتشكيلها المستقل تماماً وضع مسودة التشريعات اللازمة لإعادة تنظيم المجال الصحفى والإعلامى المصرى.
وقد ضمت اللجنة خمسين عضواً، يمثلون الهيئات الرئيسية التى تمثل الصحفيين والإعلاميين وفى مقدمتها نقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين تحت التأسيس، والنقابة العامة لعمال الصحافة والطباعة والنشر والإعلام، وغرفة الإعلام المرئى والمسموع، والمجلس الأعلى للصحافة، ونقابة الصحفيين الإلكترونيين تحت التأسيس، بالإضافة إلى أساتذة وخبراء قانون، وأساتذة صحافة وإعلام.
وقد تم التشاور حول هذين المشروعين بين ممثلين للجنة الوطنية، ولجنة تمثل الحكومة المصرية بقرار من رئيس الوزراء السابق المهندس إبراهيم محلب يرأسها الدكتور أشرف العربى وزير التخطيط، وانتهى بالتوافق على مسودة واحدة نهائية وافق عليها الطرفان فى بداية شهر سبتمبر 2015، وهى التى تنتظر الآن عرضها على مجلس النواب الجديد لإصدارها فى صورة قانون.