فى عام ١٩٥٤، انتقل صاحبنا «حسن» بطل قصة «الرومانسى والحكيم والمغامر» إلى الصف الثانى الإعدادى، بمدرسة الدكتور على مشرفة بدمياط.. وكان له صديق فى نفس الصف يدعى «على» من قرية صغيرة بالقرب من المدينة.. كان «على» قصير القامة، الأمر الذى كان مدعاة للمداعبة والتندر.. ففى طابور الصباح، حيث يردد تلاميذ المدرسة نشيد: «مصر التى فى خاطرى وفى فمى.. أحبها من كل روحى ودمى»، كان حسن يقود «جوقة» من أصدقائه يرددون فى نفس الوقت: مصر التى فيها سمك وجمبرى.. أحبها من كل روح الشيخ على «القصيرى».. وفى إحدى المرات كان أحد المدرسين المشرفين يقف قريبا منهم، فسمع ما يقولون، فقام بإخراجهم من الطابور، وبدلا من الصعود إلى فصولهم، ساقهم إلى مكتب ناظر المدرسة كى يلقوا ما يناسب من عقوبة.. فى نفس الصف أيضا، كان يقوم بتدريس مادتى اللغة العربية والدين، مدرس قصير القامة بشكل ملحوظ، يرتدى بزة «مكرمشة»، ويضع فوق رأسه طربوشا طويلا ليعوض به قصره، ويشد بنطاله إلى صدره بحمال، وكانت رابطة عنقه قصيرة وعريضة.. كان بفك الرجل بعض الاعوجاج، وكان عندما يتكلم، يثير فى التلاميذ السخرية والضحك.. وقد وصل الأمر إلى أنهم كانوا يستغرقون فى الضحك بمجرد دخوله الفصل.. وفى إحدى حصص الدين، وعندما بدأ فى تلاوة بعض الآيات ضحك التلاميذ كالعادة، فما كان منه إلا أن قال (مستنكرا): «أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون» (النجم: ٥٩-٦٠)، ظنا منه أنهم يضحكون على الآيات، لا عليه، ومن ثم كان لابد من معاقبتهم.. وسيق «حسن» وبعض زملائه هذه المرة أيضا إلى مكتب الناظر، حيث كانت عصا التأديب فى انتظارهم..
هكذا كان حسن طوال الوقت، لا يكف عن المشاغبة، إلى أن حدث ما غيره إلى شخص آخر مختلف.. أصبح هادئا، متأملا فى كل ما يجرى حوله، كثير الإصغاء، لا يتكلم إلا بحساب.. ففى منتصف أغسطس من عام ١٩٥٦، توفى والد «حسن».. غيب الموت من كان سببا فى وجوده.. انطفأ المصباح الذى علمه الصدق والوفاء والبر بالفقراء والمساكين، وأشعل فى قلبه جذوة الإيمان، وحب النبى محمد (صلى الله عليه وسلم).. انطفأ السراج الذى كان يقوده فى عتمة الليل إلى المسجد.. توقفت النصائح والوصايا والحكم الجليلة التى كان يرددها على مسامعه.. غاب من كان يتهلل لمرآه عندما كان يذهب إليه ليأخذ مصروف اليوم... حزن عليه «حسن» وحزنت عليه الأسرة حزنا شديدا.. بدا متماسكا أمام من جاء معزيا، لكنه عندما خلا إلى نفسه انفرط فى البكاء والنحيب.. الوالدة كانت أشد حزنا من الجميع.. بدا هذا فى صمتها وعلى قسمات وجهها، كأنها بلغت السبعين فى لحظة، مع أن عمرها لم يكن قد تجاوز آنذاك ٣١ عاما فقط.. لم تبك أو تولول كما تفعل النساء، رغم أن الوالد لم يترك إرثا أو معاشا.. لم يترك سوى البيت الذى يؤويهم، وشقتين ملحقتين لم يكن إيجارهما معا يتعدى جنيها واحدا.. لكن الله تعالى قيض للأسرة الخال «سلمان»، ذلك الرجل الحنون الذى وهب حياته لكفالة أخته «هانم» وأولادها.. ومن عجيب ما يتذكره «حسن» أنه فى يوم الوفاة وبعد الانتهاء من الدفن، جاء العم الوحيد له من بلدته «فارسكور» لتعزية الوالدة، ولما هدأت الرجل، انتحى بها جانبا وطلب منها عباءة أخيه «أمين» التى كان يضعها على كتفيه فى فصل الشتاء، خاصة عند خروجه فى الليل أو فى الفجر للصلاة فى المسجد(!).. أراد العم ألا يعود إلى بلدته خاوى الوفاض أو كما يقولون «بخفى حنين».. نعم كان الرجل فقيرا، لكن هذا التصرف لم يكن لائقا فى هذا التوقيت، خاصة مع امرأة يمزقها الحزن ويفتت كبدها الألم والوجع.. حصل الرجل على العباءة المطلوبة، وكأنه ما جاء إلا لها، ثم غادر منصرفا ولم يأت بعد ذلك أبدا.. فشتان أى شتان بين «خال» أعطى كل شىء، و«عم»، جاء ليحصل على شىء.. أليس يقال: «الخال والد»؟ ولله فى خلقه شؤون... هناك محطات مهمة فى حياة كل منا، وربما يكون لهذه المحطات من التأثير الدراماتيكى ما يؤدى إلى تغيير مجرى حياة الإنسان.. لقد كان التعليم بالنسبة لوالد «حسن» غير ذى أهمية، ويكفى القراءة والكتابة، ثم يحترف مهنة أو كما يقولون «صنعة» توفر له حياة كريمة.. كان الوالد يعده ليكون مبرزا فى عالم صناعة الأثاث، وهى الصناعة التى كانت ومازالت تعتبر من أهم معالم مدينة دمياط.. حتى أخت «حسن» التى كانت تكبره بعامين فقط، كان مخططا لها أن تكون الشهادة الإعدادية هى آخر المحطات بالنسبة لها.. لكن الأخت كان لها رأى آخر، فقد سعت - دون علم والدها - إلى الالتحاق بمدرسة المعلمات، وفوجئ الوالد قبل أن يبدأ العام الدراسى بخطاب يأتيه من المدرسة يحدد فيه المصروفات وشكل الزى، وغير ذلك من المستلزمات.. جاء الوالد إلى البيت ثائرا وهم بضرب ابنته على تصرفها، لكن الوالدة وقفت حائلا دون ذلك.. ومن غريب ما فعلته الأخت، أنها ذهبت والتقت بعض أصدقاء الوالد وتحدثت إليهم أن يقنعوا والدها بتحقيق رغبتها فى الاستمرار فى التعليم.. ولم يجد الوالد مفرا من الإذعان لذلك.. وهكذا تصنع الهمة والطموح..
مع وفاة الوالد، انقطع «حسن» عن الذهاب إلى ورشة النجارة.. شجعه على ذلك صديق لخاله يدعى السعيد مشرفة ابن عم العالم الشهير الدكتور على مصطفى مشرفة.. كان الرجل يتحدث كثيرا إلى «حسن» عن ابن عمه بإعجاب وفخر واعتزاز، ويتساءل دائما لماذا لا يكون مثله، خاصة أنه تبدو عليه أمارات الذكاء ومن الممكن أن يصير يوما ما واحدا من علماء مصر؟.. وقد ظلت هذه الكلمات تراود خيال «حسن» لفترة طويلة حتى إنه بعد حصوله على الثانوية العامة، كانت وجهته الأساسية هى كلية العلوم..
صحيح أن «حسن» ترك النجارة وتفرغ للتعليم، لكنه لم يكن متفرغا بالمعنى الحقيقى.. لم يكن هناك من يوجهه أو يتابعه.. بل ترك وشأنه، وكانت والدته تردد أمامه المثل القائل: «اللى ياكل على ضرسه ينفع نفسه».. صحيح أنها أرادت أن يستشعر المسؤولية، لكنه فى تلك المرحلة من العمر كان فى حاجة إلى توجيه وتحفيز يدفعه إلى العمل والجد والاجتهاد، خاصة إذا كان من النوع الذى يأنس إلى اللهو واللعب.. غير أنه كان فى حاجة إلى متابعة من نوع آخر، من حيث معرفة أصدقائه وما يجرى بينهم، والأماكن التى يترددون عليها، وهكذا.. كل ذلك من الأهمية بمكان ضمانا لمرور الأولاد فى هذه الفترة الحرجة من حياتهم بشكل سوى وطبيعى، ودون التعرض لضغوط نفسية أو عصبية تؤثر على حاضرهم ومستقبلهم.. لكننا للأسف، لا نولى أولادنا المتابعة المطلوبة.. وفى ظل ثورة الاتصالات والمعلومات والسماوات المفتوحة وتحول العالم بثقافاته المختلفة إلى حجرة صغيرة، تصبح عملية المتابعة ضرورية ولازمة.. وأكثر إلحاحا..