هل كفر الشعب المصرى بالحزبية.. ولذلك ابتعد عن معظمها.. بل وأسقط رؤساء بعضها.. أم أن التعدد الحزبى - والأصح التشتت الحزبى - هو الذى جعل أغلبية الشعب يعطى أصواته للمستقلين.. وأعطى ظهره للأحزاب؟! والدليل أن المستقلين حصلوا على 56٪ من المقاعد، بينما حصل الحزبيون على 44٪ فقط، بينما حصل الوفد - منفرداً فى انتخابات يناير 1924 - على 90٪ من الأصوات.. وحصل فى آخر انتخابات برلمانية، فى يناير 1950، على 228 مقعداً من مجموع المقاعد البالغ 319 مقعداً، وحصل المستقلون على 30 مقعداً فقط.. وحصل السعديون على 28 مقعداً، والأحرار 26 مقعداً، والوطنيون 6 مقاعد، واشتراكى واحد.. وقارنوا بين ما حصل عليه الوفد فى هذه الانتخابات منذ 65 عاماً وما حصل عليه المستقلون، بينما كانت مصر كلها تغلى أيامها بعد تعدد حكومات الأقلية، ومنذ أقيلت حكومة النحاس قبل الأخيرة فى 8 أكتوبر 1944، إذ عاشت مصر بعدها 7 حكومات حتى نوفمبر 1949، وما أشبه الليلة بالبارحة.. فكم عدد الوزارات التى عاشتها مصر منذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن.. والشبه كبير للغاية.
وكما كفر الشعب، قبل يناير 1950، من تعدد الحكومات منذ عام 1944، كفر الشعب من تعدد الحكومات منذ ثورة يناير 2011، ولذلك أقبل الشعب - بل ورحب الملك فاروق نفسه - على الانتخابات المقترحة.. ورحب بعودة حزب الوفد إلى الحكم.. ولكن الصورة الآن تختلف.. فالشعب الذى أعطى للوفد أغلبية كاسحة عام 1950 كان يحلم بالاستقرار.. ولكن الشعب - فى الانتخابات الأخيرة - ابتعد وعزف عن الأحزاب.. طلباً أيضاً للاستقرار.. فهل هذا سليم؟.. حتى وجدنا من رؤساء الأحزاب الحالية من رسب - هو نفسه - فى الانتخابات حتى من المرحلة الأولى.. وهناك من رسب فى مرحلة الإعادة.. واسألوا حازم عمر، رئيس حزب الشعب الجمهورى، وتيسير مطر، رئيس الحزب الدستورى الاجتماعى، وهشام السيد محمود، رئيس حزب مصر الفتاة.. ورحم الله أحمد حسين، منشئ حزب مصر الفتاة القديم، بينما تم ضرب حزب التجمع اليسارى.. والحزب الناصرى.. ولم يحصل حزب الوفد على حلمه، وهو أقدم وأقوى أحزاب مصر ما يقرب من قرن من الزمان.
كل هذا يؤكد رأينا فى أن مصر الآن تبتعد عن الأحزاب.. ليس فقط بسبب وجود 106 أحزاب، ولكن بسبب غياب برامج واضحة عند معظمها، وكان هذا وذاك وراء عزوف الأغلبية عن الأحزاب.. وربما أيضاً بسبب عدم قيام الأحزاب العريقة بتطوير برامجها لتلائم العصر.. وتستجيب لمتطلبات الثورة.. وكما أفرزت ثورة 19 حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين فقط.. كنا نتوقع أن تفرز ثورتا يناير ويونيو أحزاباً أخرى تستجيب لأحلام الأمة.
ولكن هل - بعد أن تصل مصر إلى مرحلة الاستقرار - يمكن تصفية عشرات الأحزاب الحالية إلى ثلاثة أحزاب أو حتى أربعة.. ففى أمريكا حزبان، وفى بريطانيا ثلاثة أحزاب.. وألمانيا 4 وإيطاليا خمسة.. أم أن نتيجة الانتخابات الأخيرة هى التى ستفرز كل ذلك.. وهنا نعترف إذا كان بعض الأحزاب الحالية هدفها الوصول إلى السلطة أو على الأقل حماية مصالح الذين أنشأوها - وهو ما أطلقنا عليه زواج السلطة بالمال - ولاحظوا أن نصف هذه الأحزاب على الأقل أنشأها رجال أعمال.. أو على الأقل دعموها ليؤثروا على سلطة التشريع، وأيضاً سلطة اتخاذ القرار.. فإن مصر عاشت نفس التجربة فى الثلث الأول من القرن العشرين، وإن كانت أحزاباً تنتسب للسلطة نفسها.. أو قامت بإيعاز من السلطان نفسه.
ففى يناير 1925 نشأ حزب الاتحاد بواسطة مجموعة مؤثرة بعد أن انشقوا على حزب الوفد، أبرزهم عبدالحليم البيلى واللواء موسى فؤاد باشا، وهو أحد الشيوخ المستقيلين من الهيئة الوفدية، وخيرت بك راضى.. وأنشأ هذا الحزب جريدة تنطق بلسانه هى جريدة الاتحاد، تولى رئاسة تحريرها عبدالحليم البيلى واشترى المؤسسون من ليون كاسترو، المحامى، جريدته الفرنسية «الليبرتيه» بثمن ضخم لتنطق بلسانهم، بعد أن كانت جريدة وفدية.. واختاروا لرئاسة الحزب يحيى باشا إبراهيم، وأجبروا الناس على التبرع له، وكوفئ اللواء موسى فؤاد باشا بتعيينه وزيراً للحربية والبحرية، فى حكومة زيور الثانية.. وكان وراء هذا المخطط كله حسن باشا نشأت، وكيل الديوان الملكى ورئيسه بالنيابة.. وفى عهد زيور عاشت وعرفت مصر أول تزوير للانتخابات!!
وفى عام 1930 أنشأ إسماعيل صدقى حزب الشعب ليخوض به الانتخابات، كما أصدر صحيفته.. ثم اندمج حزب الشعب مع حزب الاتحاد بعدها وأطلق عليهما حزب الاتحاد الشعبى، ولم يكن حزباً للشعب.. ولا حزباً يدعو للاتحاد.
وهذا التطور كله يقودنا إلى الغوص بحيادية شديدة فى موضوع الانشقاقات التى تعرض لها حزب الوفد سواء فى عهد سعد باشا.. أو زادت فى عهد النحاس باشا، وكان بعضها بإيعاز من القصر الملكى.. استمراراً للصراع بين الوفد والقصر.. فإلى الغد.