هل فى مصر الآن أحزاب حقيقية.. ولماذا عندنا الآن 106 أحزاب؟ بل السؤال الأهم: ما الذى جعل عندنا كل هذه الأحزاب.. وهل ذلك لأن الأحزاب الموجودة غير قادرة على مواجهة تطورات الأحداث.. وبالذات بعد ثورتين شعبيتين هائلتين.. أم أن الشعب الذى عانى من نظام كان يكبل تكوين الأحزاب بكثير من القيود، عبر لجنة شؤون الأحزاب إياها، وبمجرد أن تفجرت الثورة، انطلق الشعب لينشئ أحزابه.. ويعوض بها كل ما عاناه من سنوات القهر، وأن الحزب إذا أراد أن يحصل على «صك الإنشاء» عليه أن يقدم أولاً فروض الطاعة والولاء.. فلما ارتفع سيف المنع.. تداعت الأمور وأخذنا نشهد ثم نعيش الآن هذا التعدد الحزبى، غير الموجود فى أى دولة أخرى.
وهل صمدت الأحزاب القديمة - قبل الثورة - أم أصابها الوهن وأعجزها طول فترة النضال ضد السلطة وضد السلطان؟.. تلك وغيرها أسئلة عديدة تدور فى الساحة السياسية.. وللأسف ليست عندنا- حتى الآن- معاهد سياسية تشرح لنا، بعد أن تقوم بعملية تشريح علمية للقضية كلها، ورغم وجود أساتذة للعلوم السياسية!!
فى البداية تعالوا نلق الضوء على أحزابنا قبل يناير 2011، قبل أن نغوص أكثر لنعرف كيف كانت أحزابنا السياسية قبل ذلك بقرن بالتمام والكمال.
نعم كانت عندنا عدة أحزاب قبل ثورة 19، كان حزب مصطفى كامل «الحزب الوطنى القديم» هو أبرزها.. وإن كان هناك أيضاً حزب سياسى أنشأه الصحفى المصرى الشيخ على يوسف - صاحب قضية الزواج والتطليق الشهيرة إياها - ولكنه كان يسعى لكى يثبت للقاضى صلاحيته للزواج من ابنة الحسب والنسب.. وهنا ليس مجالها بالتفصيل، ولكنه للأسف أراد أن يضيف إلى «وجاهته» مركزاً اجتماعياً ولذلك التصق بالخديو عباس حلمى الثانى، وكما وجدنا شاعر القصر، أو شاعر الأمير، وهو أحمد شوقى.. وجدنا حزب القصر أو حزب الخديو، ولكن هذا الحزب مات بموت صاحبه: على يوسف.
ولكننا وجدنا حزباً - أو فكرة حزب - يمثل آراء الطبقة الغنية.. أى كما كان يطلق عليهم، أصحاب المصالح الحقيقية.. وكانت هذه هى نواة نشأة حزب الأحرار الدستوريين.. ولكن عندما اشتعلت ثورة 1919، خرج من رحم هذه الثورة حزب الوفد، الذى هو أول حزب حقيقى فى تاريخنا السياسى الحديث، لأنه كان يعبر عن الأمة كلها.. ولم يقم فقط على أكتاف الطبقة الوسطى.. بل ضم - بجوارهم - الفلاحين والعمال والطلبة وغيرهم.. ثم إنه قام لمهمة كبرى هى قيادة المقاومة المصرية، من أجل طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال، أى بكل بساطة: كان حزباً «صاحب قضية»، ولذلك التفت حوله وبقوة كل القوى الفاعلة.. التى تربت على أفكار محمد شريف باشا، الأب الشرعى للدستور المصرى حتى من أيام الثورة العرابية.
وجاءت انتخابات أول برلمان - تحت ظلال وأعلام ثورة 19 - وكانت مصر تغلى، وكان هناك 3 أحزاب: الوفد، والأحرار الدستوريين، والحزب الوطنى.. وبسبب أفكار الوفد التى قامت على الاستقلال وطرد الاحتلال.. حصل هذا الحزب على 90٪ من مقاعد البرلمان، أى من 214 دائرة.. وحصل حزب الأحرار على 6 مقاعد، والحزب الوطنى على 4 مقاعد.
وشهدت مصر حتى عام 1950 - آخر انتخابات فى ظلال دستور 23 - تزايد عدد الأحزاب، بعضها جديد، وبعضها انشقاقات على حزب الوفد، أبرزها الحزب السعدى الذى أنشأه أحمد ماهر والنقراشى.. وحزب الكتلة الوفدية وأنشأه مكرم عبيد.. وإن نشأ أيضاً الحزب الاشتراكى الذى كان فى الأصل حزب مصر الفتاة، وأنشأه أحمد حسين وفتحى رضوان ومحمد صبيح وغيرهم.
فهل كان ذلك بسبب ضعف حزب الوفد بسبب توالى معاركه مع القصر الملكى، سواء أيام الملك فؤاد.. أو أيام ابنه الملك فاروق؟.. ولكن الحقيقة أن مصر عرفت أيضاً عدداً من الأحزاب الكارتونية التى نشأت فى أحضان القصر ورعاية السلطان، فى مقدمتها حزب الاتحاد، وكان رئيسه يحيى باشا إبراهيم، رئيس الحكومة، التى أجرت أول انتخابات برلمانية فى يناير 1924، ثم حزب الشعب الذى أنشأه إسماعيل صدقى باشا، أول من أدخل التزوير فى الانتخابات، التى تمت عام 1925، وأنشئ هذا الحزب عام 1930.
ولكن وسط كل هذا الحراك السياسى شهدت مصر إنشاء حزب الأحرار الدستوريين فى 30 أكتوبر 1922 فى عهد حكومة عبدالخالق ثروت، وتألف بالفعل من الأعضاء المنفصلين من حزب الوفد، المختلفين مع سعد زغلول، وهو أول انشقاق فى حزب الوفد، وأبرز نجومه عدلى باشا يكن، وإن استقال من رئاسة الحزب عام 1924، ولكن يعيب أنه حزب حكومى يعتمد على قوة الحكم، ولذلك غلب سعيه للسلطة بالارتماء فى أحضان السلطان، وبالتالى لم يكن حزباً شعبياً.
ونعترف هنا أن السلطة - فى العهد الملكى، وأيضاً فى العهد الجمهورى- كانت تكن عداءً رهيباً للوفد.. بسبب شعبيته الأولى فى عهديه الأول تحت زعامة سعد، والثانى تحت زعامة النحاس.. ولكن هل تسببت كل هذه المعارك فى إضعاف الوفد.. حتى وصل به الحال وجاء ترتيبه بين الأحزاب الحالية - وطبقاً للانتخابات الحالية - فى المركز الثالث.. كما انهار حزب التجمع والحزب الناصرى وجاء قبلها حزبا المصريين الأحرار ومستقبل وطن.. وهل هذه الأحزاب الجديدة تعتبر أحزاباً حقيقية.. أم مجرد أحزاب كارتونية؟.. ونواصل غداً إن شاء الله.