x

محمد رياض حديث «العناية المركزة» ..إلى علاء الديب محمد رياض الثلاثاء 08-12-2015 21:19


انهضْ..

إنه وقتٌ بلا فائدة، ولا هدف، لا يمكثُ في الروح، وقتٌ يمكن حذفه بلا أسى، لنسترد كل ما سقط منا، وكل ما فقدناه عمدا. وقتٌ لا يليقُ بك. وقتُ العناية المركزة، وقتُ الخديعة الكبيرة.

لم أحمل إليك مشاعر منسقة، ملفوفةً بعناية، وعلى صدرها بطاقة، كنتُ أكتب سيرة المعارك، منهكا من الدوران حول ذاتى، وفى الشوارع، كنتُ بريئا أكثر من اللازم، وكنتَ تنتظرُ في مكان ما، وها أنا أقف أمامك، مجردًا من براءتى الأولى.

سأتحدث عن حيرتي، عن حريّةٍ تسبح في متاهة، سأتحدث إليك وحدك.

فالكل ينأى بعيدًا، سعيدًا بالابتعاد، ورافضًا الشىء المحتوم، وأنا وأنت حائران بين الوجه والقناع، بين هزيمة الثورة، وانتفاضة الروح.

لن أتحدث هذه المرة عن الفراشات، ولا عن الشعر، ولا عن كل ما نريده أنا وأنت، كل ما نحلم به معًا في الحياة والكتابة، أصارحُك، إننى غريبٌ عن معادلة الأفكار والواقع الحىّ، أهدرُ حياتى في قصيدة، ولا أعرف متى سينتهى الحلم الذي يشنقنى.

مؤامرةٌ تلتهم رأسي، ووجودى، وذاكرتى، مؤامرةٌ هائلة بلا بداية ولا نهاية، الشعر محضُ خيانة كما تقول، وأنا لم أعد أملك الشوارع، أنا مهددٌ بالاستيقاف، محكومٌ بالشبهة، محاصرٌ في العمل والمقهى وسيارة الأجرة وصالة المترو، مرشحٌ للإبعاد والزج في خندق الخائنين، ولا أملك أن أحيا يوما واحدا أبعد من الآن، بلا نزفٍ جديد، وخسائرَ جديدة.

كيف وضعوا حولى كل هذه المتاريس دون أن أقاوم، دون أن أحتج؟ كانت قنابل الغاز وهمًا، والقتال وهمًا، والانتصار والبطولة وهمًا، وبيانات القيادة، والصلوات، والغناء، والرصاص، وخطاب التنحى، والحرائق، ولجان التفتيش، ولجان التصويت، والمدرعات، وبطاقات الهوية، وزعيق النضال، والعاهات، والمطالب، والقوانين، والأسلحة البيضاء، والعصابات، والفوضى.

أريد أن أتوقف، فلا أثير الشبهة، أن أتسكع في الشوارع، فلا يفتشون في حقيبتى عن قنبلة محتملة، وفى ملابسى عن علامة إدانة، يبحثون في ضميرى عن نشيد، قضية، كلمة واحدة تدل على هوية غير ثابتة في السجلات، هو عصر المساواة بلا عدالة، عصر زحام الميادين، والمواصلات العامة، والأيديولوجيات، عصرٌ بالغُ السيولة، متواطئٌ، لا يريد أن يلقى نظرة للوراء، إلا لكى يطلق لعنة، وَقِحٌ إلى حد التشهير بالذين قضوا نحبهم.

هذه تركتى التي ورثتها، وهذه هداياى، وهذا دمى لم يخرج بعد للنهار.

كل ما أريده هو أن تغفرَ هزيمتى، فأنا لم أصحب الثورة معى كما وعدتك، لكى تضع قبلة على رأسك، أو تحمل الورود إلى سريرك، ما زلت أبحث عنها في وجوه الناس، رغم أن أثرها باقٍ على جسدى، وفوضاها تملأ روحى كالخطيئة.

سألتك أن تأخذ بيدي لأعبر الطريق، وأعلم أنه لا شىء هناك في الجهة المقابلة، السؤال هو الهدف، الحاجة لأن نتوصّل إلى إنسانيتنا، إلى الأشياء القليلة الباقية، الحرارة التي تؤكد أننا لسنا وحيدين في هذه الحياة، وأن هناك بشرا بإمكانهم أن يساعدونا على العبور إلى الجهة الأخرى، ولو لم نجد أي شىء هناك.
انهضْ..

لنرتب العالم معا من جديد، فالماضى كله يهتز ويتصدع وينهار، حالةُ إجهاضٍ شاملة، في الشوارع وغرف الحجز، في الحقول والجامعات، في الأحزاب والمقاهى، في الاعتراف والضمير، في التردد والمواجهة، إنه زمن التحولات العصيّة، حيث الجنون يصل إلى حدوده القصوى، لكنه، بينما يحاول سحق ذاكرتنا، يضع أقدامنا فوق بداية جديدة، عندما تشبه صيحات الجوع هتافات الاحتجاج.
انهضْ..
بيننا قضية مشتركة، وأحلامٌ مؤجلة.

وسأدعي عليك بما كتبته أنت: «مع ذاكرتى أحارب.. آخر معاركى، وفيها لا أقبل الهزيمة»، «الذاكرة الحية.. قضيتى من البداية للنهاية، الذاكرة المشتركة لى ولك، ذاكرتنا معا». فإذا كانت البطولةُ خادعة، فالشهادة ليست كذلك، والدم لن يصبح وهمًا في يوم من الأيام، والفرح حتى بانتصارات صغيرة، قد يلهم جيلا كاملا لا نراه.

في سجون الصين الرهيبة، عندما كان العالم يخوض حربه العظمى الثانية، كتب شاعر من فيتنام في يومياته: «فى هذا العالم قد نصاب بألوف النكبات، لكن لا شىء أقسى من خسارة الحرية، حين لا يحق للإنسان بعدُ بكلمة، بإشارة نرضى بأن نساق كالخيول أو الماشية».

تنقل الشاعر بين ثلاثين سجنا، وقطع عشرات الكيلومترات ماشيا على قدميه، أربعة عشر شهرا مكبّل اليدين، يكتب بالصينية، لغة جلّاديه، لكى لا يثير ارتياب المراقبين والحرس، ساعات طويلة يتأمل وجوه المدمنين واللصوص، الشجر والزنازين والأمراض والقذارة، ويتعذب، بعيدا عن بلاده، لكنه لم يفقد أبدا ابتسامة الثقة في الحياة، يكتب: «حذائى مهترئ، والطريق الموحلة تلطخ قدمىّ، لكننى يجب، مهما يكن، أن أبقى سائرا»، إنه الشاعر الذي أصبح بعد ذلك رئيس جمهورية فيتنام الديمقراطية.

خطوة واحدة خارج هذه الغرفة، خطوة، ولو مرتعشة، بعيدًا عن أنابيب الأكسجين، ومؤشرات قياس الوجود، بعيدًا عن وهم العناية الفائقة، والأمان الذي يمكن التخلى عنه، خطوة حقيقية تخطوها على الأرض، هي خطوة كبيرة في الزمن، سنوات إلى الأمام..
إنها معركتك، وأعرف أنك لن تقبل الهزيمة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية