ظلام القطار يغرى بالتأمل.. وقعقعة العجلات إيقاع رتيب تصحو عليه كل مخاوفه الكامنة. ولغة الجسد تترجم ذلك كله دون أن يشعر. ركبتاه تهتزان دون وعى. وكأن جسده يخرج من عقال التمدن الذى يحتم عليه إخفاء مشاعره. جسده كله يهتز فى توتر مثلما كان يرقص البدائيون تحت القمر الأفريقى حول الطوطم الحامى للقبيلة. يخرجون– بالرقص- خوفهم من الضوارى التى تتربص بهم. من الروح الشريرة التى تتلبس بهم وتمرضهم. من تقلبات المناخ وشح الأمطار ونقص الثمار. رقص أجسادهم المحموم يطهرهم من كل مخاوفهم. هو يفعل ذلك دون أن يدرى مستترا بظلام القطار الذى خلت معظم مقاعده.
يخاف؟ من ذا الذى لا يخاف؟ يخاف من الماضى والحاضر والمستقبل! لو عصرته لسال خوفا دفينا. خوفا يقطر من العظام والأنسجة. ويقطر أيضا من الذكريات الدفينة. حينما استيقظ فجأة فلم يجد أمه جواره. بدا البيت صامتا وشاسعا ومخيفا. انهمك فى الصراخ حتى ازرقت شفتاه وعجز عن التنفس.
وفجأة انتبه من ذكرياته على يد تربت على كتفه. كان ظلام القطار يمنعه من تأمل ملامحه. لكنه قدّر أنه كهل تجاوز الستين. وبدا له أيضا أن ابتسامته مريحة.
قال الكهل فى هدوء آسر: «هوّن عليك. فلا شىء يستحق التوتر». رن صوته رنينا عجيبا برغم قعقعة القطار. فى الأحوال العادية كان سيعتبره متطفلا. لكن شيئا دفعه للقبول، مثلما استجاب لأحضان أمه فى نهاية الأمر، وكف عن البكاء المميت.
قال فى ود: «إن شاء الله كل خير يا حاج. دعواتك». رد الكهل: «معظمها مخاوف لا مبرر لها ويمكنك مواجهتها».
تسربت أشعة القمر عبر نافذة القطار للحظة عابرة، لكنها كانت كافية كى يتأمل ملامح وجهه. مخاوف غير مبررة! الغلاء! خوفه من الفقر مخاوف غير مبررة؟ احتكاكه برئيسه فى العمل؟ رعبه من فقدان وظيفته وصعوبة الحصول على وظيفة مماثلة؟ مشاكله المزمنة مع زوجته؟ لا مبالاة أبنائه؟ أهذه مخاوف غير مبررة! عجبا مما يقول.
قال الكهل فى إصرار وكأنه يقرأ أفكاره: «أستطيع أن أخلصك من كل مخاوفك. فهل تقبل أن تخضع للمعالجة».
وبرغم رهبة خالطته فإنه لم يشك أنه قادر على ذلك فعلا. همس الكهل: «اهدأ تماما ولا تتحرك».
لا يدرى بالضبط ماذا حدث! أصابع الكهل الرشيقة اخترقت عينه دون أن يشعر بأدنى ألم. وبأصابع اليد الأخرى اخترق جانب جمجمته حتى غاصت إلى الكف. ووسط دوامة من الذكريات كأنه يقلب صفحات كتاب، شعر بأنه يخرج من تلافيف مخه نقاطا سوداء كأنها وسخ فى ثوب أبيض. وهو مستسلم تماما، لا يفكر فى الابتعاد أو الاعتراض، حتى تنهد الكهل فى ارتياح، وقال:
«نظفتك تماما. قل لى الآن: بماذا تشعر؟».
لم يبد العجوز كأنه ينتظر الإجابة. والدليل أنه انسحب من جواره عائدا إلى مقعده. وللحظات أحس بارتياح لم يشعر به من قبل فى حياته. شىء يشبه انسكاب الماء الطهور وهو يزيح الوسخ عن مسام جسده. لا خوف! لا عقد دفينة! وحتى مشاكله التى كان يعتبرها مستعصية أحس أنه قادر أن يواجهها بمنتهى السهولة. ولأول مرة يشعر أنه متصالح مع الحياة وأن الهموم لم تكن تستحق هذه التعاسة.
كان القطار قد وصل إلى محطته. وبدأ الركاب الآخرون يهبطون إلى رصيف المحطة، وتلكأ قليلا باحثا عن الكهل الغامض ولكن لم يجد له أثرا.