لم أجد للفعل «اشمأنط» أصلاً فصيحاً، ولعل أقرب الأفعال إلى معناه هو «اشمأز»، حيث يعنى الاشمئزاز: «التقزز، الاحتقار، التكرُّه.. وتشمئز نفسه أى تنقبض وتنفر!»، وهى المعانى التى نقصدها عندما نشمأنط.. أو يمارس أحد الاشمئناط علينا! مثل ذلك الذى وجدته مشمئنطا وهو ينهر محاوره الذى كان يبدى استغرابه من إقدام الجماعة الإرهابية على طمر خطوط المجارى بما يسدها ويزيد كارثة آثار الأمطار، ويتساءل مستنكرا أو مشمأنطا: أكلما وقع منكر ألصقتموه بالإخوان وبالذين تنقمون عليهم أن قالوا ربنا الله ويقيمون الصلاة؟!
كنت أستمع وآثرت الصمت أثناء الخناقة، غير أننى لم أُطق صبراً، وقررت أن أشارك، فقلت ما سبق أن كتبته عن أحداث عشتها عام 1977.
وتبدأ الحكاية بأننا كنا نزلاء فى سجن الاستئناف من يناير إلى يونيو، وفى مايو استقبل السجن نزلاء عابرين سيمكثون فترة قصيرة، ثم يعودون إلى سجن أبوزعبل، حيث يقضون فترة عقوبتهم المؤبدة! وكان مجيئهم لسجن الاستئناف- بباب الخلق خلف مديرية أمن القاهرة- لكى تسهل حركتهم لأداء الامتحانات فى كلية دار العلوم التى التحقوا بها أثناء سجنهم! كانوا مجموعة من أعضاء حزب التحرير الإسلامى، الذى أسسه فى مصر صالح سرية الفلسطينى، واستقطب فيه عدداً من طلاب الكلية الفنية العسكرية، وقرروا تدبير انقلاب عسكرى، فسيطروا على سلاحليك الكلية، وقتلوا مَن قتلوا وخططوا للخروج للقبض على السادات أو قتله وتولى حكم مصر المحروسة.. وفشلت الحركة وحُكِم على بعضهم بالإعدام، وكان من المعدومين صالح سرية وكارم الأناضولى وغيرهما، وحُكِم على الباقين بالمؤبد، وكان أميرهم فى السجن اسمه- على ما أتذكر- سعيد دربالة!.. والمهم أنهم عادوا لأبى زعبل بعد الامتحانات، وكانت لى معهم حكاية أغرب من الخيال- حقيقة وليس مجازا- بدأت بمحاولتهم ضربى، وربما قتلى، بعد أداء صلاة ظهر يوم الجمعة!
انتقلت لليمان أبى زعبل، ووجدتهم يقيمون فى زنزانة واحدة واسعة المساحة، شأن بقية زنازين ذلك العنبر فى الليمان، و«سلامو عليكم».. «عليكو.. السلام»، وفرشت البطانية السوداء فى الممر الواسع لنجلس ولنتناقش ربما يوميا، وعندما يحين موعد الصلاة ننهض، فأنضم لجماعتهم فى زنزانتهم، ويؤمنا أحدهم لنقف دقائق من أجل تسوية الصف: الكتف فى الكتف.. والساعد فى الساعد.. والفخذ فى الفخذ، حتى لا يجد الشيطان ثغرة ينفذ منها.. أى سد الفُرَج بإحكام.. واختلفنا ذات مناقشة حول ماهية «الذى عنده علم من الكتاب» ذلك الذى قال للنبى سليمان إنه يستطيع أن يأتيه بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، أى قبل أن يفتح عينه من غمضتها، وبذلك تفوق على عفريت- عظيم- الجن الذى كانت أقصى قدراته هو أن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه.. وكنت أدلل بأنه من الممكن أن يمتلك الإنسان قدرات تخرق الزمان والمكان، أى أن للأولياء كرامات، وكانوا يرفضون ما أقول، فاستندت لحكاية صاحب سليمان الذى تقول كتب التفسير إن اسمه «آصف بن برخيا».. ولما تمادوا فى الإنكار سألتهم عن كتاب تفسير يكون لديهم، فقالوا إن لديهم «ابن كثير».. وأحضروه، وتبين أن فيه ما أذهب إليه.. ومن فور قائدهم رد بأن هذه النسخة من ابن كثير مزورة!
ومضت الأيام.. نتناقش ونصلى ونشرب الشاى، وذات يوم إثر القبض على جماعة التكفير والهجرة- قتلة الشيخ الذهبى- قررت إدارة الليمان إجراء حركة تنقلات فى الزنازين، وكان من نصيبى مع رفاقى الناصريين أن نحل محل جماعة الفنية العسكرية.. وخرج المسجونون لينتقلوا- وفق التعليمات- ولم تستغرق الزنازين الأخرى أكثر من ربع الساعة، إلا أننا ظللنا ننتظر فراغ إخواننا التحريريين الإسلاميين من الثامنة صباحا حتى نادى الشاويش: التمام يا أفندية الساعة الخامسة مساء! وهم يدخلون ويخرجون، ولا يفصحون عما يعطلهم إلى أن دخلنا لنفاجأ بما يلى: من غير حلف ولا قسم شاهدت الجدران التى كانوا قد طلوها بالزيت وقد احترقت أجزاء منها والباقى ملوث بهباب ورق الجرايد الذى أشعلوه لحرق الزيت على الجدران.. ثم إنهم خلعوا صفوفا من بلاط الزنزانة وحفروا تحتها حتى أخرجوا الرمال.. ثم إنهم أيضا خلعوا حنفيات «صنابير» المياه الست التى كانت تعلو الحوض الطويل ودقوا خوابير خشبية مكان الحنفيات.. وأخيرا قاموا بخلط الإسمنت والجبس وسدوا بالعجين الإسمنتى فتحات المرحاضين البلدى.. والإفرنجى!
وكان الذهول من جانبى وزملائى، ولأننى كنت «الكوماندة» توجهت إلى واحد منهم- وأذكر أن اسمه «أحمد ماجد»- وكنت أتوسم فيه الطيبة والتسامح وسألته: ما هذا يا عم أحمد؟!
وأجابنى وهو شبه خجلان: أصل الجماعة قعدت تناقش الإجابة عن سؤال طرحه البعض: هذه ديارنا «الزنزانة» سنتركها فماذا نفعل؟! وبعد حوار طويل قررنا أن نفعل ما تواتر أنه الصحيح، ألا وهو! «إذا ترك المسلمون ديارهم لغير المسلمين فعليهم ألا يتركوا عامراً إلا وخربوه»! وكدت أُجَنّ، إذ بادرته بقول: لكن نحن مسلمون مثلكم.. وقد صلينا معكم الظهر والعصر عشرات المرات، وتناقشنا فى الأصول والفقه والحديث والتفسير.. وحتى بفرض صحة ما تقولون فإن هذه ليست ديارا لأنها زنزانة، يعنى «مال عام».. وحتى بفرض أننا فى نظركم غير مسلمين فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وضع آدابا للحرب.. وأكرر الحرب، منها عدم طمر أو تسميم مصادر المياه، ومنها عدم قطع شجرة أو الاعتداء على بيعة أو دير أو كنيسة أو قتل امرأة أو طفل!
ولم يرد الشاب، بل أكد أن هذا هو رأى الجماعة وأميرها دربالة!
ذلك الذى جرى منذ حوالى أربعين عاما يتصل بما حدث فى الإسكندرية وغيرها من إقدام الإرهابيين على طمر مجارى المياه بالإسمنت والزلط والرمل حتى تغرق المدينة ويموت الناس وتتعطل مصالحهم.. ولمَ لا، وقد تركوا أو أُترِكوا- مبنى للمجهول- الحكم وورثهم غير المسلمين!
أما حكاية محاولة ضربى وربما قتلى فى سجن الاستئناف على أيديهم فتلك قصة أخرى.