عندما علمت بتوقيع الاتفاق مع روسيا على بناء محطة الضبعة النووية، قررت أن أسكت داعيا الله أن أكون على خطأ، وأن يكون ما تم توقيعه لصالح بلادى وأولادى وأولاد الناس، فلم يعد فى العمر نصف ما فات ولا ربعه فيما أحسب لنفسى ولجيل من رجال قصار العمر، قصفت أعمارهم تحليقات الأحلام العالية المشروعة التى انتهت مرارا بسقوط موجع على أرضٍ تكررت سرقة أحلامها، واقع لم يرحم أبدا صدق قلوبنا، أحسست بذلك كله، وقد كنت فى المنصورة، وانكسر قلبى على زملاء رائعين كسر المرض المبكر أعوادهم التى كانت قوية وسخية العطاء فى حب هذا البلد وأهله.
قررت أن أسكت ولا أعود للموضوع داعياً لبلادى بالخير، لا خوفا، ولا تراجعا عما سبق أن أبديته، ولا تحاشيا لجدل لم يعد له لزوم، ولا حتى طلبا لراحة البال، بل لأننى قلت تقريبا كل ما يغطى بالنقد مفردات الموضوع النووى، من التباسات دورة الوقود الذى لا نملكه ولا نملك تدبير نفاياته، إلى احتمالات المخاطر والأعباء الأمنية الزائدة، ثم المُغالطات فى حساب «التكاليف» التى لا تعكسها أبدا «أسعار» بيع الطاقة الكهربية المولدة نوويا للمستهلك، لعدم إضافة «الدعم» الحمائى الذى تقدمه كل دول الطاقة النووية لهذه الصناعة، وستضطر دولتنا لتقديمه، وهو دعم فى النهاية من جيوب الناس. أما آخر ما كتبت فكان عن هموم وأعباء وتكاليف تفكيك هذه المفاعلات النووية عند انتهاء آجالها الافتراضية، وهو مما سكت عنه أو أخفاه المروجون لهذه الصناعة اللا مستقبلية، فى العالم ولدينا.
إننى بالفعل لست عالما كما غمز بعض متخصصى النووى وكابوهات ألتراسه، لكننى «محرر علمى» عالى الاحتراف، شغلت هذا التخصص النادر فى عالمنا العربى لإثنى عشر عاما متواصلة فى أعرق مطبوعة ثقافية هى مجلة «العربى»، وفى المهمة التى كان يضطلع بها عالم كبير ومثقف موسوعى هو الدكتور أحمد زكى رحمه الله، ولم أكن إلا ناجحا ومُجددا فيما شغلته، بل أضفت إليه أبوابا غير مسبوقة، ومُلحقا علميا تحول إلى مجلة علمية. أقول بهذا ردا على البعض، ومنهم صحفى ناصرى «مخضرم» تجاوز الثمانين، كتب مرتين فى مجلة تصدر فى لندن، معتبرا أن دخولى فى الموضوع كان «مفاجأة حقيقية»، متهكما من أننى بدوت كما لو صرت «عالم فيزياء وهندسة نووية فجأة»، وزاد هذا المخضرم الذى حسبت أن تراكم السنين يضيف إليه حكمة التوقف والتبين، فأفتى بأن «المصرى اليوم» قد استخدمتنى فى حملتها على المفاعلات النووية، وهو عوضا عن أنه فى كل ذلك يرمى الناس بما لا يعلم، افتراء وأذى، وضح أنه لا يتابع ما يُنشر منذ ربع قرن، فقد بدأت نشر كتابى «فصول تشيرنوبل الأربعة ــ لحظات كاتب مصرى عايش الكارثة» الذى انتهيت من كتابته عام 1990، مسلسلا فى «أخبار الأدب» عام 1994، حيث تبناه الراحل العزيز جمال الغيطانى وقدمه واصفاً إيّاه بأنه «نص عالمى بكل المقاييس»، ثم نُشر فى سلسلة «أصوات أدبية» التابعة لهيئة قصور الثقافة التى كان يشرف عليها الأديب الكبير محمد البساطى عام 1998، وأعادت دار الشروق نشره فى عام 2006. وإضافة إلى ذلك، فإننى لم أكف عن مناهضة طاقة الانشطار النووى فى الحرب والسلم على السواء منذ عشرين سنة، ولى مقالات عديدة ضد المفاعلات النووية لإنتاج الكهرباء منذ العام 2006، نُشرت فى جرائد الدستور، ثم الشروق، أى قبل أن أكتب فى «المصرى اليوم»، وقبل أكذوبة «استخدام» «المصرى اليوم» وصلاح دياب لى فى الحملة على هذا «الحلم» كما زعم الناصرى المخضرم فى المطبوعة اللندنية.
أما حكاية أننى غير متخصص، فهى نقيصة فى فهم هذا الصحفى المخضرم لدور «المُحرر العلمى» فى الصحافة والإعلام، حيث تتجاوز أهمية دوره عادة دور العلماء فى مخاطبة القارئ أو المتلقى غير المتخصص، ولعل أبرز نموذج لذلك هو «جون بروكمان» المحرر العلمى المعروف والوكيل الأدبى لكوكبة من أكبر علماء العالم وعشرات منهم فائزون بنوبل، وهو من صك تعبير «الثقافة الثالثة» والإنسانيون الجدد ويكاد يمثل القدر نفسه من أهمية أهم علماء العالم عندما نتكلم عن الثقافة والتحرير العلميين. إنه دور له شروط على رأسها أن يكون مُستحقه مسلحا بثقافة علمية متشعبة، تمكنه من قراءة ومتابعة مُخرجات العلم وحديث العلماء، وهو ما لم أحد عنه أبدا، فلم أؤلف معلومات فى كل ما كتبته معارضا للمحطات الكهرو نووية، لأننى منذ دُوهِمتُ بكارثة تشيرنوبل فى إبريل 1986، وعايشت بعضا من مرير آلامها، وأنا أتابع شجون هذه الصناعة فى الدوريات العلمية والمواقع المتخصصة. لهذا لست نادما على كل ما كتبت، ولدى المزيد والمزيد، لكننى فضلت السكوت، داعيا لبلدى بالخير، لأسباب خاصة أسلفت ذكرها، ولأسباب عامة أؤمن بها، ويلومنى عليها كثيرون من «الديمقراطيين المثاليين» و«الثوريين المُتأججين» وأبرياء كما منتفعو «حقوق الإنسان»، وعلى رأس هذه الأسباب إيمانى بأن الحفاظ على الدولة الوطنية، هو أولوية أرحم بالإنسان، عندما تهددها وحشية وفوضى ودموية مشاريع اللا دولة، التى يسعى إليها متربصون ومتآمرون وخطاءون كُثر، كما أننى صرت أوقن بأن دولة وطنية بها نقائص نجتهد فى إصلاحها، هى أكرم وأصدق من دعاوى هدم الدولة لإنشاء المِثال، الذى لم نشهد بديلا له إلاَّ الوبال، وها نحن نرى كوارث هدم الدول عبر الثورات المخطوفة من حولنا، كما أننا ذقنا ونذوق بعضا من همجية وعدوانية ودموية دعاة هدم الدولة الوطنية لصالح أوهام أبعد ما تكون عن معنى الوطن حتى بالحس الفطرى. ودائما ما أقول إننى أعيش على هذه الأرض، وفى واقعها، الذى لا أرى فيه بديلا ثالثا كما يزعم بعض الممسكين بمساطر الديمقراطيات الغربية، خاصة المطمئنين منهم إلى ملاذات خارجية تؤويهم إذا انقلبت مقاييس هذه المساطر إلى ساحات جهنم فى هذا البلد. ولن يحدث ذلك بإذن الله ورحمته، وبإرادتنا فى الإصلاح الجاد من شأن أنفسنا، حُكاما، ومحكومين.
لا ملاذ لى، ولا لأولادى، إلا هنا، ولا أريد، ولم أرد، ولم أفكر أبدا فى جِنّاتٍ خارج هذا التراب، لأننى جربت شيئاً من طعوم هذه الجِنّات، وكان يجننى الحنين إلى تراب شارعنا الترابى المتواضع فى المنصورة، وسأظل أردد مع الشاعر «بلادى وإن جارت علىّ كريمة، وأهلى وإن ضنوا عليَّ كرام». هذا إذا توقفت الأمور عند الضن والجور، أما الانحطاط بالافتئات، فلست رعديدا ولا من ذوات الدم البارد حتى أتقبل سخائمه ساكتا. وفيما يخص تخرصات الصحفى الناصرى المخضرم، أعتقد أنها حالة كاشفة لاستبداد التخشب الأيديولوجى حتى بكرام الناس، فهو كإنسان مجرد يمكن أن يكون طيبا وصدوقا، لكنه ما إن يطل من البرواز الأيديولوجى الخشبى ويبدأ فى النظر إلى العالم بتخشب، حتى يتحول إلى «حيوان أيديولوجى»، يفترس الناس، وينكر عليهم أى فضل وأى صدق لمجرد حيودهم عن كتالوج أيديولوجيته المُتقادم. وهذا ينطبق على أسرى كل جمود الأيديولوجى، يساريا كان أو يمينيا، دنيوى السفور أو دينى القناع. وكم من راقين أطاح ويطيح برقيهم ذلك الانحطاط.
نعم الانحطاط، وهى المنطقة ذاتها التى يصر بعض النووقراطيين المتخشبين، الخفاف، أن يكرروا منها صنيع المتخشبين أيديولوجيا فى مهاجمة معارضى مشروعهم النووى، وقد عاد صوتهم يعلو بالاستباحة وكأن التوقيع على اتفاقية إنشاء محطة الضبعة مع روسيا يسن أسنانهم ليكرروا العض، ويشحذ أظفارهم لتخمش. وبداية أوضح للناس، وليس لهؤلاء القاذفين بالسخائم، أننى لم أعارض المحطات النووية فى الضبعة وحدها، بل إننى عارضتها فى أى بقعة من هذه الأرض، وعندما كتبت عن الضبعة إثر آخر زلزال تعرضت له، كنت موثقا كتابتى بمصادر علمية عالمية متخصصة فى الزلازل، وأرخت لزلزال كبير وقع فى المنطقة منذ مائة عام، صحيح أن الزلزال الأخير كان ضعيفاً، لكنه كان يفضح فرية روجها هؤلاء عن مطلق براءة هذه البقعة من الزلازل. ثم، لقد كتبت بوضوح، وفى هذه الجريدة ضمن ما كتبت، أننى لا أرى فى الضبعة إلا أنها بقعة مطيرة من ساحل طويل أُهدرت تنميته بجدار أسمنتى عازل من منتجعات تتحول إلى بيوت أشباح فى معظم الفصول، بينما كان هذا الساحل الذى زُرعت الحبوب على مياه أمطاره الموسمية، يطعم الإمبراطورية الرومانية فى أوجها، بل أنقذها من الجوع غير مرَّة.
قلت بكل هذا، لأن هذه قناعتى، فالسياحة فى عالم مضطرب فأر سرعان ما يهرب من مجرد همسة، كما أن قراءتى لهرم الاحتياجات الإنسانية، الذى وضعه عالم النفس إبراهام ماسلو، لا يزال يقنعنى ويقنع غيرى، بأن قاعدة قاعدته يمثلها الأمن الغذائى، والتخضير عنوانه. وهى قناعة، ليست نابعة فقط من تأمل هرم ماسلو، بل من فلسفة الإيكولوجيا، أى تواشج الإنسان كشريك فى الأرض لا كمالك لها أو مُتجبِّر عليها، فهو مُكوِّن من مكوِّنات شبكة الحياة والأحياء فى أرض الله، وهو ما أؤمن به، ويفسر ــ لمن يريد فهم دوافعى فى معارضة ما أعارض ــ لماذا أقف بهذا الإصرار مع عطايا الله الطبيعية كمصادر للطاقة تحقق مبدأى الاستدامة وثقافة الاعتدال، اللذين نحن أولى بهما من غيرنا، قطعا.
لقد أوجعنى وأثارنى أن ينبرى أحد النوويين الخفاف، ويعيد قذف من عارضوا « المشروع النووى» بوحول الاتهامات القذرة من عينة أنهم «خونة وعملاء للغرب ويحصلون على عمولات ولهم مصالح»، وهى حالة من الإفلاس المهنى والأخلاقى، عندما يعجز «متخصص»، عن الرد على المعلومة بمعلومة، بل لقد ثبت تزييفه أو جهله بمفردات هذا المشروع النووى، فيما يخص توطين الوقود وتدبير النفايات، وأعباء التفكيك، فهرب بالحديث إلى منطقة الانحطاط ليفترى على مثلى من معارضى النووى بتهم العمالة والعمولات والمصالح. وهو هبوط حقير، يُشعل وجدان وجوارح شخص مثلى، أكرمه الله بألا يكون مدينا لأحد بأى انكسار، ولا مصلحة، ولا منفعة، لا مطمح، ولا مطمع، رأيى من رأسى، ومعاشى من كدحى، لست نطاط مؤتمرات محلية ولا دولية، لم أستجب لدعوة سفارات لدول كبرى متكررة حتى يئسوا من دعوتى، وأكاد أكون صَفَقت أبوابا عديدة انفتحت لى لأكون شخصية دولية فى المجال البيئى، لأننى لم أعد أثق فى النوايا «الدولية» بعد سفور هيمنة كبار شياطين العالم عليها. لا ألهث وراء ظهور إعلامى، وأعيش حرا فى الظل الرحيم الجميل. أليس اتهام مثلى بما ذكرت وممن ذكرت، انحطاطا يدعو إلى كل هذا الغضب؟
أسأل، قاطعاً السكوت، داعيا الله أن يجعل حتى فيما نظنه شرا، الخير كل الخير لهذا البلد وأهله، حاضره ومستقبله. إنه على كل شىء قدير.
----------------------------------------------------
مقاطع من كتاب «أصوات من تشيرنوبل» للكاتبة روسية الثقافة بيلاروسية المنشأ والفائزة بجائزة نوبل هذا العام سفيتلانا ألكسيفيتش
مارتا فليبوفيتش ـ كبيرة المهندسين السابقة فى معهد الطاقة النووية بأكاديمية بيلاروسيا للعلوم
بحلول نهاية مايو، بعد قرابة شهر من الحادثة، بدأنا نتلقى، للاختبار، منتجات من منطقة الكيلومترات الثلاثين. كانوا يأتون إلينا بأحشاء حيوانات من المنطقة ومن خارج المنطقة. بعد الاختبارات الأولى، بات واضحا أن ما كنا نتلقاه لم يكن لحما، بل منتجات ثانوية مشعة. كنا نفحص اللبن. لم يكن لبنا، بل منتج ثانوى مشع.
كانت الجرعات المرتفعة فى كل مكان. فى قرى قليلة قمنا بقياس نشاط الغدة الدرقية لدى البالغين والأطفال. كان يتجاوز الجرعة المسموح بها بمائة مرة، وفى بعض الأحيان بمائتين أو ثلاثمائة. كانت الجرارات تتحرك، والمزارعون يحفرون أنصبتهم من الأرض. الأطفال كانوا يجلسون فى صناديق الرمل ويلعبون. كنا نرى امرأة على أريكة جنب بيتها، ترضع طفلها ـ وفى لبنها مادة السيسيوم ـ فهى مادونا تشيرنوبل.
سألنا رؤساءنا: «ماذا نفعل؟ كيف ينبغى أن يكون تصرفنا؟» فكانوا يقولون: سجلوا القياسات. وشاهدوا التليفزيون.!
زويا دانيلوفنا بروك ـ مفتشة بيئية
كنت أعمل فى دائرة التفتيش فى حماية البيئة. كنا بانتظار نوع من التعليمات، لكن لم نتلق أيًّا منها. ولم يبدأوا فى إثارة الضوضاء إلا بعد أن تكلم كاتبنا البيلاروسى أليكساى آدموفيتش فى موسكو، محذرا ومنذرا. كم كرهوه! أبناؤهم يعيشون هنا، وأحفادهم، وبدلا منهم يكون كاتب هو الذى ينادى العالم: أنقذونا! قد تتصورين تفعيل نوع من آليات الحفاظ على الذات، ولكن كل ما كنت ترينه بدلا من ذلك، هو اجتماعات للحزب، واستراحات للتدخين، ولا كلام فى هذه وتلك إلا عن «أولئك الكتّاب. لماذا يدسُّون أنوفهم فيما لا يخصهم؟ نحن لدينا تعليمات، وعلينا أن نتبعها. ما الذى يعرفه هو؟ هو ليس متخصصا فى الفيزياء».
كانت لديهم بروتوكولات مكتوبة لدفن التراب المشع. كنا ندفن التراب فى التراب، فيا له من نشاط إنسانى غريب. وبحسب التعليمات، كان يفترض أن نجرى مسحا جيولوجيا قبل أن ندفن أى شىء لنتأكد من عدم وجود مياه جوفية فى نطاق ما بين أربعة أمتار وستة تحت موقع الدفن. كان علينا أيضا أن نتأكد أن عمق البئر غير كبير، وأن قاعها وجدرانها مكسوة بطبقة من البوليثيلين. ذلك ما كانت تقوله التعليمات. أما على أرض الواقع فكان الأمر مختلفا بالطبع. شأنه طول الوقت. لم يكن هناك مسح جيولوجى. كانوا يغرسون أصابعهم ويقولون «احفروا هنا»، فيحفر الحفار. «كم العمق الذى وصلت إليه؟». «ومن يدرى؟ أنا أتوقف عندما أصطدم بالماء». كانوا يحفرون فعليا فى الماء.
كانت أطول مهامى فى منطقة كراسنوبولسك، وكانت الأسوأ. فمن أجل منع الجزيئات المشعة من الانتقال من الحقول إلى الأنهار، كنا نحتاج إلى اتباع التعليمات من جديد. كان علينا أن نحفر أخاديد مزدوجة، ونترك فجوة، ونحفر المزيد من الأخاديد المزدوجة، وهكذا. كان علينا أن نحفر بمحاذاة جميع الأنهار الصغيرة ونجرى فحوصاتنا. كان من الواضح أننى بحاجة إلى سيارة. فأذهب إلى رئيس المؤسسة الإقليمية أجده جالسا وقد وضع رأسه بين يديه: لم يغيّر أحد الخطة، لم يغيّر أحد عمليات الحصاد، مثلما زرعوا البازلاء، عليهم أن يجمعوها، برغم أن الجميع يعرفون أن البازلاء هى الأكثر امتصاصا للإشعاع.
فاسيلى بوريسوفيتش نسترينكو، المدير السابق لمعهد الطاقة النووية فى أكاديمية بيلاروسيا للعلوم
فى ذلك اليوم، السادس والعشرين من إبريل، كنت فى موسكو فى عمل. وهناك عرفت بأمر الحادث. اتصلت بـ«سلاينكوف»، السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعى البيلاروسى فى مينسك. اتصلت، مرة، واثنتين، وثلاثا، لكن لم يوصلونى به. وصلت إلى مساعده، وكان يعرفنى جيدا.
وأخيرا دخلت لأقابل سلاينكوف.
«لماذا يجرى رجالك [من المعهد] فى أرجاء البلدة حاملين مقاييس جايجر ناشرين الذعر؟ لقد تشاورت بالفعل مع موسكو، مع الأكاديمى إيلاين، ويقول إن كل شىء طبيعى».
لم يكونوا عصابة من المجرمين. بل الأمر كان أقرب إلى مؤامرة من الجهل والطاعة. المبدأ الذى تقوم عليه حياتهم، الشىء الوحيد الذى علمته لهم الآلة الحزبية، هو ألا يرفعوا رؤوسهم..
كنت أحمل مقياس جايجر فى حقيبتى. لماذا؟ لأنهم توقفوا عن السماح لى بمقابلة المسؤولين المهمين، ضجروا منى. فكنت أحمل مقياسى معى، وأضعه على الغدد الدرقية لدى المنسقين والسائقين الخصوصيين الجالسين فى غرف الاستقبال. كانوا يفزعون، وأحيانا كان ينفعنى هذا، فيسمحون لى بالدخول. وبعد هذا يقولون لى: «لماذا تتنقل يا بروفيسير مثيرا ذعر الناس؟ هل تظن أنك وحدك القلق على شعب بيلاروسيا؟ وعلى أى حال، الناس سيموتون لهذا السبب أو ذاك، سواء بالتدخين، أو فى حادث، أو منتحرين».
ترجمة - أحمد شافعى