من خلال تجربة مثيرة فى مهنة الصحافة، أعتقد أنه بات من الخطأ الكارثى أن يظل يتحكم فى أى من مواقعها الآن، من مارسوها خلال حقبة الاتحاد الاشتراكى، أو خلال حقبة الرقيب تحديدا، بعد أن أصبح هؤلاء من الرقابة الذاتية لدرجة لا يمكن أن تُنتج صحيفة، أو حتى صفحة تُشبع قارئ القرن الواحد والعشرين.
قد يظل الكاتب يطل علينا بمقال أو عمود أو حتى كاريكاتير، كل صباح، على مدى خمسين عاما أو أكثر، إلا أن أيا من هذه لم تترك أثرا لدى القارئ فى يوم من الأيام، بل ربما هو لا يتذكر أيا من أعماله أو إنتاجه ذات يوم، هو إنتاج أقرب إلى الماء البارد، أو القول التافه، لم يترك علامة من أى نوع، لذا فهو يغادر المهنة كما دخلها، ثم يغادر الحياة أيضا بنفس الحالة.
مع تطور المجتمعات، ومع تطور وسائل الاتصال، ومع التطور التكنولوجى فى المعرفة والحصول على المعلومة، أصبح من الغباء فى أى صحيفة، أو وسيلة إعلامية من أى نوع، عدم نشر هذا الخبر أو ذاك، لأى سبب يتعلق بغضب السلطة، أو امتعاضها، بالتالى أصبح التعليق بالرأى، بحرية وشفافية، على كل ما هو مطروح من أحداث، أمراً بديهياً، لم يعد ممكناً أيضا الحد منه، أو التدخل فيه لسبب مهم، وهو أن هناك من الصحف الأخرى المنافسة، أو وسائل الإعلام الأخرى، من سينتقد بحرية تامة، وبالتالى سوف يجد القارئ غايته فى تلك الصحيفة، أو هذه الوسيلة، ناهيك عن أن مواقع التواصل الاجتماعى لم تعد تترك شاردة، ولا واردة، إلا وأشبعتها نشرا، وتعليقا، من كل نوع ولون.
سياسة إعلام الاتحاد الاشتراكى، أو سياسة الرقيب هذه تصبح بمثابة أقصر طريق لانهيار أى صحيفة، خاصة فى ظل عوامل التطور والتقدم المحيطة محليا ودوليا، وهو ما يجب وضعه فى الاعتبار حين الاعتماد على مثل ذلك الجيل المشار إليه فى تسيير دولاب العمل فى أى موقع إعلامى، الحالة النفسية فى هذه الحالة هى التى تفرض نفسها، تاريخ طويل من التعقيدات، والتكدير المعنوى والبدنى سوف تسيطر على الناتج النهائى، لم تعد مثل هذه الأوضاع تنتج نجاحات من أى نوع.
فى الوقت نفسه، يجب الأخذ فى الاعتبار أن شباب هذه المرحلة من الإعلاميين وغيرهم لن يقبلوا بمثل هذا النوع من التفكير، أو بمثل هذه النظرة فى التعامل مع المرحلة ككل، باعتبارها تمثل بُخلاً تربوياً، يقابله بخل فى العطاء، أو فى التعبير، وإن شئت قل جُبن فى التفكير، يقابله جبن فى الأداء، والصحيفة فى النهاية، أو الوسيلة الإعلامية هى التى تسدد الفاتورة، فاتورة سَكِّن تسلم، أو فاتورة عِش جبانا، تموت مستورا.
ربما لم تعد الصحافة صاحبة الجلالة، بسبب ممارسات ذلك الجيل الذى أهانها أيما إهانة، بل أفقدها رونقها واحترامها، كما لم تعد سلطة رابعة نتيجة ممارسات جيل آخر، تخلى عن حقوقه، وتبرأ من واجباته، وارتضى برشوة دورية، مع كل انتخابات نقابية، ثم لم تعد بعد ذلك مهنة البحث عن المتاعب، نتيجة ممارسات جيل ثالث استسهل الحصول على المادة الخبرية من مصادرها الرسمية، دون البحث والتنقيب فيما قبل أو بعد الخبر، ثم خلط بعد ذلك بين التحرير والإعلان، بالتالى أصبحت الآن مهنة من لا مهنة له، فكانت النتيجة الطبيعية إعانات حكومية شهرية، ثم خسائر فادحة أسفرت فى النهاية عن التقشف فى هذه، وإغلاق بالضبة والمفتاح لتلك.
أعتقد أن أجيال الرقابة الرسمية، وصحافة الرأى الواحد، كان عليها أن تطور من ثقافاتها وسلوكياتها مع تطور الزمن، أما الاستنطاع فقد يكون السبب المباشر فى تخلف الكثير من أوضاعنا على كل المستويات، وليس فى مهنة محددة، ولا يجب أبدا أن يتم ذلك بقرار، أو قسرا، إنما يجب أن يكون عن طيب خاطر، بوازع من ضمير، أو حتى إحساس، لما فيه صلاح المجتمع، وصلاح الفرد، وصلاح المهنة.