نحن نمشى وراء الغرب فى كل شىء حتى حين نمتدح عملا فنيا نكرر ما يقوله الخواجات، ونحاول تقليدهم برفع القبعة.
فى أكثر من ندوة، وجدت أن عددا من الزملاء عندما يريدون مدح فيلم، تعلو أصواتهم معلنين حكاية القبعة المرفوعة، وأحيانا ينطقونها بالفرنسية «شابوه»، فهل المصرى أقصد الأفندى الذى كان يرتدى الطربوش حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى اكتشف فجأة فى الألفية الثالثة أن «الشابوه» القبعة هى الحل، رغم أن الأولى به أن يرفع «الزعبوط» ليلقيه هذه المرة احتجاجا فى وجه من قدموا له هذا الفيلم؟!
الشريط السينمائى الذى شاهدناه «من ضهر راجل» يبدو أمامنا جسدا ضخم الجثة، مفتول العضلات، قوى البنية، عريض المنكبين، ولكنه يفتقد أهم صفة، وهى العقل الذى يمنح القيمة لتلك الملامح. العقل يحدد بالضبط الجرعة المطلوبة من كل شىء، وهكذا جاء العمل الفنى لا يحمل علاقة بفن السينما، ورغم ذلك فعندما قرر على الجانب الآخر قسم من الزملاء انتقاد الفيلم، أحالوا الحكاية إلى مشهد جنسى يجمع بين بطلى الفيلم آسر يسن وياسمين رئيس، وهكذا نحن أساتذة فى اختصار القضايا الكُبرى إلى مشهد صغير نعتقد أنه يُشفى غليلنا، فامتلأت المواقع الصحفية برفض واستهجان وهجوم حاد على الفيلم، بسبب مشهد الاغتصاب.
هل المأساة أخلاقية؟
فى الحقيقة: إن التوقف أمام البُعد الأخلاقى يصب هذه المرة لصالح الفيلم، فهو غير مطالب بتقديم ما دأبنا على وصفه عنوة بـ«السينما النظيفة» وهو توصيف ليس له علاقة بالسينما، ولكن الفيلم برمته كان يحمل بداخله كل أسباب الهزيمة، وهو غياب الأسلوب الواحد فى الكتابة والإخراج وتوجيه الممثلين، فكان يبدو كل ممثل يجتهد فى جزيرة منعزلة، والمخرج كريم السبكى يُطبق قاعدة «التمثيل مسؤولية كل ممثل»، ولهذا مثلا نتوقف أمام ثلاثة ممثلين كل منهم تعامل مع الأمر بوجهة نظره، واجتهد لأقصى درجة، وهم ياسمين رئيس، وآسر ياسين، ووليد فواز، إلا أن هذا العنصر الذى يبدو للوهلة الأولى إيجابيا، تضاءلت قيمته فى ظل لجوء الجميع حولهم للزعيق والصخب، ليس فقط على مستوى أداء الممثلين، بل كل التفاصيل، من موسيقى وتكوين ضوئى، تبدو كأنها تصرخ، ثم إن الشريط الذى عُرض كأنه، من فرط الترهل، دون مونتاج نهائى.
نعم لا توجد راقصة إلا واحدة فى لقطة بعيدة، فتستطيع أن تقول إن الفيلم خالٍ من الوصفة السبكية بحالتها التقليدية، الرقص وأغانى المهرجانات والنكت والصفعات يتلقاها المطرب الشعبى محمود الليثى، كما أن أحمد السبكى لم ينه فيلمه كعادته بأن يغنى له كل الأبطال، وهم يهتفون باسمه، أليس هو صاحب الدكان، ورغم خلو الفيلم من كل هذه التحابيش، فإن مجرد تجنب تلك الوصفة لا يعنى أن لدينا سينما.
الفيلم فى الحقيقة مثقل بصراع داخلى، فالكاتب محمد أمين راضى يسعى لتأكيد فكرته ومن أجل ذلك كان يلوى عنق الدراما، لكى يصل بالشخصيات المصنوعة لتحمل أفكاره، فهو يرفض الفاشية بشقيها الدينى والأمنى، وهما يتعانقان معا ليصبحا رأس قنبلة الفساد، وبدأ الكاتب ينسج شخصياته لتعميق الفكرة، بقدر كبير من التعسف. محمود حميدة إمام جامع، وفى نفس الوقت بلطجى سابق، تحتفظ الجهات الأمنية بملفه الأسود، تلعب به عندما تريد السيطرة على ابنه آسر ياسين. الأجهزة لديها فتوة آخر وليد فواز يسيطر على الحى، وكأننا نعيش فى زمن حرافيش نجيب محفوظ، لا يمكن أن تعود دراميا لعصر الفتوات بكل تفاصيله، الجديد هو الفتوة العصرى من الممكن أن يتجسد أمامك مثلا فى هيئة مذيع فضائى تستغله الدولة عندما تريد أن تمارس ضغوطا على أحد، نعم الإيذاء البدنى المباشر أحد الأسلحة التى كانت، وستظل فى يد الأنظمة القمعية، ولكن ليس على طريقة زمن أبطال نجيب محفوظ، إلا أننا لو أردنا فضح الأمن، فعلينا أن نتعمق أكثر، ولا نقدم من الأرشيف الصراع المباشر بين رجل شرطة فاسد أدى دوره صبرى فواز والفتوة السابق محمود حميدة، وكل منهما يُمسك بملف الآخر مهددا بفضحه أمام ابنه.
راضى الذى أراه كاتبا تليفزيونيا موهوبا إيقاعه الدرامى الذى شاهدته على الشاشة لا علاقة له بقانون السينما القائم على التكثيف، الفكرة لم تختمر لدى الكاتب، فهى مصنوعة بفجاجة، المفروض أن السيناريو يحاكى الموسيقى، فأنت لا تسمع صوت الريشة، وهى تحتك بالوتر، ولكنى كنت أرى الكاتب، يسكب بكل إصرار فكرته فى إطار عقلانى مباشر، وهكذا تبدأ الأحداث بطفلين عندما يكبران يصبحان آسر ياسين وشريف رمزى، الأول ملاكم وفتوة عند اللزوم، والثانى فقيه زائف فى الدين، والصراع حول الحسناء ياسمين رئيس، شقيقة الفتوة وليد فواز.
ويزداد صخب العزف الدرامى الذى يصل إلى مرحلة «العفق» فى الصراع بينهما على ياسمين، وتزداد الدموية أكثر مع استمرار الصراع، ويصل إلى حدود الغشومية فى التعبير، شريف يرفع الأذان، بينما آسر يغتصب زوجته، ثم يتجاوز حدود المسموح، وهو يقدم تساؤلا تقليديا، فحواه الطفل ابن من؟
ولا ندرى كيف لم يشك شريف أن زوجته على علاقة بآسر، رغم أنها هتفت باسمه فى ليلة الدخلة، ثم بعد اغتصابها من آسر كيف لم يشعر أنه ليس الرجل الأول؟
حالة من التورم الفكرى، ولم يكتف الفيلم بخناقات الفتوات التى ملأت الشاشة دموية، ولكنه فى فترات الراحة كان يُقدم فاصلا من مباريات ملاكمة للهواة، ثم نصل للمحترفين، حتى يظل يقدم للجمهور أكبر قسط من العنف والدموية، ولم يتقدم المخرج كريم السبكى أى خطوة بعد فيلمه الأول «قلب الأسد»، بل انفرط منه الإيقاع تماما هذه المرة.
نعم، كنا نريد ما هو أفضل لتمثيل مصر فى مهرجان «القاهرة»، ولكن هذا هو حالنا فى السينما، ولا نملك سوى ضرب الزعابيط والنبابيت، أو فى أحسن الأحوال، على رأى نانسى عجرم «شخبط شخابيط».