أتذكر هذه المكالمة جيدا كأنها كانت بالأمس.. كنت مريضة بالمنزل ورن جرس الهاتف، وكانت المتحدثة شابة تعمل معى قالت بفرحة شديدة «ضربوا برج التجارة فجروا نيويورك» قلت بجزع «من الذى فعل هذا» قالت «ربنا» أسرعت إلى جهاز التليفزيون لأشاهد المشهد الرهيب.. لم أنس هذا المشهد الرهيب كما لم أنس فرحتها وعبارتها «ربنا».
والمشاهد تتوالى على الشاشة فى باريس استدعت ذاكرتى هذه الواقعة لأتصفح مواقع التواصل الاجتماعى فأجدها ماثلة أمامى فى العديد من التعليقات وصل الأمر بصحفية عربية تناصر مصر وهى تقول إنها لم تستطع منع نفسها من الضحك ومقدمة برامج مصرية طالبت على تويتر بالتأكد من الإجراءات الأمنية فى مطاعم باريس...أما من هللوا وشمتوا علنا فحدث ولا حرج ومن تحدثوا عن أن «ربنا» قد انتقم لنا بعد ما جرى لنا فى لندن وشرم الشيخ فهم كثر...أما الخبراء الذين قرروا أن مخابرات هذه الدولة أو تلك هى التى قامت بالعملية فحدث ولا حرج بينما لم نعدم بالطبع من خرج علينا ليقول إن الغرب هو من فعلها للإساءة للإسلام... أسوأ ما فى هذه الواقعة هى أنها جاءت فى وقت نمر فيه بأزمة الغرب طرف أساسى فيها فكشفت عن مشاعرنا وطريقة تفكيرنا ورد فعلنا للأمور... نحن بالفعل أقرب إلى المرضى للأسف لا نستخدم عقولنا بقدر ما تدفعنا مشاعرنا وردود أفعالنا البدائية وتتحكم فينا نظرية المؤامرة من أبسط رجل فى الشارع المصرى إلى الدولة المصرية ذاتها وإذا ما كان الرجل البسيط يتأثر بهذه النظرية التى يروج لها الإعلام فلا أدرى حقا إذا ما كانت الدولة المصرية نفسها تصدقها أم أنها تروج لها بحثا عن الاصطفاف الوطنى المنشود ولا أدرى من وصف لهم هذه الوصفة السحرية التى تحولنا إلى هدف لكل مؤامرات العالم وبهذه الطريقة نصطف جميعا معا لمواجهتها.
هناك شعور بأننا بتنا مسجونين داخل أنفسنا لدينا من المؤكد عقدة اضطهاد تجعلنا ننظر إلى أن العالم يستهدفنا ولا نريد أن نرى الحقائق لنعرف موقعنا من العالم وكيف علينا أن نتصرف.. بعد واقعة سقوط الطائرة الروسية سألت مقدمة أحد البرامج التليفزيونية الفضائية على الهاتف سفيرنا فى لندن بعد أن قامت لندن بترحيل مواطنيها من شرم الشيخ وتعليق رحلاتها إليها «لماذا لم يفعلوا ذلك مع تونس بعد الهجوم الإرهابى على المنتجع فى تونس» وكان رد السفير المصرى هو أنهم فعلوا بالفعل، مؤكدا أن إنجلترا قد استدعت سياحها من تونس وأنها علقت الرحلات حتى الآن... هذه هى بالضبط طريقة التفكير «اشمعنى إحنا »... نحن المستهدفون نحن ضحية المؤامرة نحن الذين نواجه العالم الذى يترصدنا... نحن فى أزمة نعم... نحن نواجه أوضاعا صعبة نعم لكن قدرتنا على مواجهة هذا تكون بإعمال العقل وليس الدخول فى موجات الشفقة على النفس وارتداء ثوب الضحية التى لم تفعل شيئا وفعل بها الآخرون كل شىء.
عندما تتابع مواقع التواصل الاجتماعى أو مقدمى البرامج أو حتى المناقشات والحوارات العادية المتبادلة بعد أحداث باريس تكتشف أنها كلها لا تموج فقط بالتشفى ولكن باعتبارها فرصة هبطت علينا من السماء لإثبات أنهم مثلنا يمكن أن يحدث عندهم ما يحدث عندنا من حوادث إرهابية بل إن البعض اعتبرها رسالة من السماء لتبييض وجهنا بينما اعتبرها البعض الآخر فرصة لإثبات أن فرنسا بلد الحريات سوف تلجأ للطوارئ تماما مثلنا.
رد فعلنا يثير الرعب أكثر من أحداث باريس نفسها فهو يكشف عن شعب مسجون داخل نفسه، لديه «بارانويا» الاضطهاد يصدق فى المؤامرات الكونية التى تحاك ضده وحده دون العالم كله ولا يتأثر بما يحدث فى العالم من مذابح تدمى أى قلب إلا بوصفها كاشفه بأنه لا يخطئ بل ويمنع نفسه من التعاطف بدعوى أن هؤلاء الضحايا هم ضحايا لأفعالهم هم أنفسهم.. الأسوأ حقا هو أن هذه المشاعر والأفكار المريضة تنساب من منابر إعلامية إلى الشعب ومن الشعب إلى هذه المنابر مرة أخرى وراقبوا مداخلات الجمهور فى هذه البرامج لتروا كيف أصبحنا.
السؤال الأخطر هنا هو هل هذه هى عقلية ونفسية شعب يراد له حقا أن يتخطى محنته وأن يعيد بناء نفسه وسط عالم يموج بكل التحديات السياسية؟ الرد على هذا يتمثل فى الحشد المصرى أمام رئاسة الوزراء فى لندن بالأغانى والهتافات والإعلام بينما المشهد فى الداخل خال من أى استعداد حقيقى لطبيعة العلاقات.. ويتمثل فى الرد الخشن لوزير الخارجية المصرى على الأمين العام للأمم المتحدة على قضية حسام بهجت ثم إطلاق سراحه بعدها بساعات قليلة والرد الجاف على وزير الخارجية الأمريكى بشأن قضية صلاح دياب ثم الإفراج عنه.. نحن رد فعل بلا أى فعل حقيقى.