جسد نحيل، ممدد على سرير بأحد المستشفيات، أصيب في قدمه أثناء نوبة العمل في «مصنع الطوب»، تقف والدته إلى جواره، تطمئنه، تدعو له بالشفاء.
يجلس، بعد سنوات، داخل غرفة خلع الملابس غاضبًا، يذهب إلى حسن الشاذلي، «يرفض منحه مستحقاته كاملة بينما يحصل زملاؤه على جزء بسيط من رواتبهم» يقول: «خلوني آخر واحد».
يركضُ، بعد سنوات، كطفل يتحسس معنى الانتصار المباغت للمرة الأولى، تكسوه السعادة وتفيض بعد هدف تاريخي بقدمه اليسرى في شباك الصفاقسي..
يقف، في آخر المطاف، هناك في كوماسي، على عشب «بابا يارا»، ينظرُ للسماء، كأنما يعاتبها، على حلم تبخّر بهزيمة قاسية..
يخلع حذاءه، يتوقف، دون رجعة، عن الركض..
بين البدايات الموجعة في «ناهيا» بقميص الترسانة الأزرق وبين التوقف عن ممارسة الكرة بعد مسيرة حافلة مع الأهلي والمنتخب المصري، بنى محمد أبوتريكة أسطورته الكروية الفريدة.
التّخمُر
«أنا مش عارف مطلعتش بدري ليه».. الأسطورة حسام حسن موجهًا حديثه لأبوتريكة أثناء تدريبات المنتخب المصري قبل بطولة الأمم الأفريقية 2006.
قضى أبوتريكة فترة طويلة من مسيرته في صفوف الترسانة، بدأ في قطاع الناشئين قبل تصعيده للفريق الأول، كان طيفه يلوح بين حين وآخر.. أمام الأهلي، كان سمير كمونة، قد عاد من رحلة احتراف غير موفقة في ألمانيا ثم تركيا، جماهير الفريق تضع آمالا كبيرة على مدافعها القوي وتنتظر ظهوره الأول بالقميص الأحمر مجددًا وكان المنافس «الشواكيش».
في منتصف الملعب، تسلم أبوتريكة الكرة، اندفع كمونة نحوه بقوته المعتادة، راوغه أبوتريكة بسهولة، لحقه مدافع الأهلي، راوغه مجددًا ومرر الكرة بين قدميه بهدوء شديد.
مرة أخرى أمام الأهلي، يتسلم أبوتريكة الكرة على الجبهة اليمنى لفريقه، في 10 ثوان ينجح في مراوغة شادي محمد مرتين بطريقته المفضلة «على الرجل الثابتة» ثم يحصل على ركنية.
أمام الزمالك، كان الضحية وائل القباني بمراوغة مهينة على حدود منطقة الجزاء تلتها تسديدة قوية كادت تهز الشباك.
مع الترسانة «تخمّرت» موهبة أبوتريكة، نال شرف الانضمام للمنتخب المصري حين استدعاه الجنرال محمود الجوهري في مارس 2001 لمواجهة استونيا وديًا، شارك على استحياء ولعب 18 دقيقة فقط.
مسيرته، انقضى جزء كبير منها، بعيدًا عن الأضواء، بين قاع الدوري الممتاز وقمة الدرجة الأولى «المظاليم»، لم تكن مهمة «لفت الأنظار» سهلة على اللاعب الموهوب لكنّه مع انطلاق موسم «2003 – 2004» كان يقضي الفصل الأخير من مسيرته مع الفريق الأزرق قبل الانتقال للأهلي.
التوّهج
«الشهرة لم تأخذ من أبوتريكة بل أضافت إليه الكثير وجعلته أقرب للناس».. سامي الجابر، أسطورة الكرة السعودية.
الفتي النحيل، الذي رفضه في البداية أعضاء باللجنة الفنية للأهلي وقالوا «لن يكون مفيدًا للنادي» وفقًا لرواية حسام البدري، أصبح الآن لاعبًا في صفوف الفريق الأحمر، حُلم والده يتحقق، مقابلة سريعة مع محمود الخطيب، حسمت انتقال أبوتريكة للأهلي بعدما حاول الزمالك اجتذابه إلى صفوفه.
الدوري غائب عن القلعة الحمراء منذ 3 مواسم، انتزعه الزمالك موسم «2000 – 2001» ثم ذهب للإسماعيلي في الموسم التالي وعاد لميت عقبة في «2002 – 2003».. الأهلي، غير متزن، التوأم رحل إلى الزمالك، الجماهير غاضبة لغياب البطولة المفضلة عن خزائنهم.
في موسمه الأول، ألقى أبوتريكة بذور أسطورته في تربة «الجزيرة».. 11 هدفًا في 13 مباراة فقط أثبتت أن الأهلي اجتذب لصفوفه موهبة ذات ثقل.
لم يكن موسم أبوتريكة الأول مجرد «طفرة مؤقتة» من لاعب مغمور يبحثُ عن مجد كروي متأخر، كان نقطة انطلاق لنجم يقدم كرة «حلوة المذاق».
في الموسم التالي «2004 – 2005» استعاد الأهلي لقب الدوري وكان لـ«ابن»ناهيا«دور بارز في هذا التتويج.
غرست أسطورة أبوتريكة جذورها في أعماق «الجزيرة»، كبُرت سريعًا في السنوات القليلة التالية، وأخذت تطوي في طريقها نحو القمة موهوبين آخرين، كانت تتغذي على مراوغات شديدة الذكاء، وتمريرات غير متوقعة، وأهداف جميلة، تنمو ثم تنمو، يدعمها جمهور متحمّس، وإعلام مساند، وقاعدة شعبية عريضة لا تناصر الفريق الأحمر بل يعلن بعض أفرادها عداءه للأهلي، ويجاهر في الوقت نفسه بحب أبوتريكة أو «الإعجاب بقدراته» على أقل تقدير.
المُنقذ
أبوتريكة، صانع ألعاب تقليدي «رقم 10» كما يقولون، يتواجد أمام لاعبي الوسط المدافع في المحور، وخلف خط الهجوم، لا يُفضل اللعب على الأطراف.. كانت طرق اللعب في تطورها الدائم والمتسارع تلفظ هذا النمط من اللاعبين في السنوات الأولى من القرن الحالي وباستثناءات قليلة أبرزها زين الدين زيدان كان هذا المركز مهدد بالانقراض لكن في مصر كان الوضع مختلفًا.
فرق الدوري المحلي ومعها المنتخب، تُفضّل، لأسباب متعددة، اللعب بثلاثي في قلب الدفاع بدلاً من اثنين، مع الاعتماد، في الغالب، على 3 لاعبين في الخط الأمامي، ثنائي هجومي وخلفهما صانع ألعاب، مع لاعبين على الطرفين وآخرين في الوسط كلاعبي ارتكاز.
وجد أبوتريكة لنفسه متسعًا خلف ثنائي الهجوم وأمام لاعبي الارتكاز، يتحرك كيفما يشاء، غير متقيد في الغالب، بمناطق محددة، ووجد زملاؤه في الفريق والمنتخب مُنقذاً لهم، يظهر فجأة كلما أغلق الخصم المساحات أمامهم.
طريقة لعبه بسيطة للغاية، يركض، نحو الظهير أو لاعب الوسط أو حتى قلب الدفاع ويتسلم الكرة، يرفع رأسه ثم يتحرك، لا يفقد الكرة تحت ضغط، يمررها سريعة متقنة، أو يراوغ بجسده ثم يمررها، لم يكن أبوتريكة من هواة الاحتفاظ بالكرة بين قدميه لفترة طويلة.
في الأهلي والمنتخب، كان الجميع يدور في فلك أبوتريكة، حين يحاول لاعبو الوسط والدفاع بدء الهجمات يبحثون عنه، حين يغلق الخصم المنافذ إلى مرماه ويضغط من مناطق متقدمة يبحث زملاؤه عنه، لم يكن قادرًا على الاحتفاظ بالكرة والركض بها فحسب لكن مراوغة واحدة منه كانت كفيلة بتفكيك كل التنظيمات الدفاعية للمنافسين واختراق حصونهم.
«هناك ميزة في أبوتريكة كانت عيب فيّ.. كنت أحب المهارات، كيف أراوغ وأخترق.. كنت أفضل ذلك ولا أركز كثيرا حين أصل إلى المرمى، أما أبوتريكة فكان يحافظ على تركيزه بعد المراوغات وأثناء إنهاء الهجمات» حازم إمام نجم الزمالك السابق يسلط الضوء في تصريحات صحفية عن أحد أبرز مزايا أسطورة الأهلي.
أمام المرمى كان أبوتريكة لاعبًا حاسمًا، لا يفقد تركيزه بسهولة، يتجاوز الضغوط المفروضة على الفريق من الخصم أو من الجمهور، يسجل برأسه وبقدميه، يصوب بدقة من مسافات بعيدة، يسجل من ضربات ثابتة ومن ركلات الترجيح.
منحته هذه الميزة مرونة تكتيكية حيثُ كان قادرًا على التألق حين اعتمد عليه مانويل جوزيه كمهاجم صريح في بعض المباريات، أو كمهاجم متأخر (رقم تسعة ونصف) في مباريات أخرى.
سجل أبوتريكة 109 هدفًا في الدوري الممتاز و31 هدفًا في المنافسات الإفريقية مع الأهلي و4 أهداف في كأس العالم للأندية و38 هدفًا مع المنتخب الأول.
تحدي الكبار
«محمد أبوتريكة أفضل لاعب عربي شاهدته في حياتي».. تشافي هيرنانديز أسطورة إسبانيا.
بتأن وثقة غير محدودة، كان أبوتريكة يلعب أمام الكبار، ظهر هذا الأمر منذ كان لاعبًا في صفوف الترسانة، كان يبالغ في مراوغة لاعبي الأهلي والزمالك وحين جاءته الفرصة لخوض تحديات أكبر زاد تألقه.
في 15 يونيو 2009، سنحت الفرصة أمام أبوتريكة لنقل نجاحه المحلي إلى دائرة أوسع، بإمكان أسطورته المحلية أن تتمدد الآن ولو قليلاً وتطرق أبوابًا جديدة خارج مصر وإفريقيا.. كان الفراعنة على موعد مع البرازيل في الجولة الأولى من كأس القارات وكان صاحب القميص رقم 22 جاهزًا لمباراة العمر.
حسن شحاتة، المدير الفني لمصر قرر اللعب بمهاجم وحيد هو محمد زيدان وخلفه أبوتريكة ومن خلفهما الثلاثي أحمد حسن وحسني عبدربه ومحمد شوقي.. محاولات تأمين الدفاع فشلت واهتزت شباك الحارس عصام الحضري بعد دقائق بأقدام ريكاردو كاكا.. ظهر أبوتريكة على الجانب الأيمن، وبعد تبادل ناجح للكرة مع أحمد فتحي كان أبوتريكة على مشارف منطقة جزاء السيليساو من الجبهة اليمنى، مرر كرة متقنة وصلت محمد زيدان أمام المرمى ليسجل الهدف الأول.
بعد الهدف بدقيقة واحدة، راوغ أبوتريكة لوسيو على حدود منطقة الجزاء ثم راوغه مجددًا بعد 20 دقيقة، تلاعب بداني ألفيش الظهير الأيمن.. عاد «ابن ناهيا» لممارسة هوايته أمام الكبار.
انتهت المباراة بفوز البرازيل «4-3» بصعوبة بالغة، صنع أبوتريكة هدفًا آخر سجله زيدان أيضًا، راوغ جُل لاعبي السيليساو بثقة وبهدوء.
في المباراة التالية أمام إيطاليا، والتي فازت بها مصر بهدف سجله محمد حمص، عاود أبوتريكة تألقه، جاتوسو وبيرلو ودي روسي كانوا منافسيه في منتصف ملعب الأتسوري، لم يراوغ كثيرًا في هذه المباراة كما حدث أمام البرازيل لكن ثقته في قدراته تضاعفت بعد لقاء البرازيل وتضاعفت مرة أخرى بعد هدف حمص، تفوق على جاتوسو في أكثر من كرة، لم ينجح كيلليني في انتزاع الكرة من بين قدميه وكادت شباك بوفون تستقبل هدفًا منه في الدقيقة 78 إثر تسديدة قوية متقنة.
بعد مباراة البرازيل كتب الصحفي الإيطالي الشهير جابريل ماركوتي في صحيفة «تايمز» عن أبوتريكة: «ربما هو أفضل لاعب في العالم يُعلّق في منزله شهادة في الفلسفة (إشارة خاطئة لمؤهله الدراسي) قد يكون أيضًا أفضل لاعب لم يلعب في أوروبا أو أمريكا الجنوبية، استمراره في مصر (وعدم خروجه للاحتراف) هل يجعل منه لاعبًا غير طموح إذ لم تتح له الفرصة للتنافس بشكل مستمر مع أفضل لاعبي العالم.. أم يكون مدعاة للفخر حيثُ ظلّ وفيًا لبلده وسببًا للسعادة بما حققه في مسيرته دون الركض خلف الملايين ومطاردة المجد في (مسابقات) كالدوري الإنجليزي والإسباني».
ودعت مصر البطولة من الدور الأول، خسرت بثلاثية أمام أمريكا في مباراة الجولة الأخيرة من مرحلة المجموعات، عاد الفراعنة لبلادهم بينما ظل اسم أبوتريكة حاضرًا هناك في جنوب إفريقيا إذ تم اختياره في فريق البطولة كواحد من أفضل 11 لاعبًا خاضوا منافساتها وإلى جواره كاكا وديمبسي في خط الوسط.
الأمر نفسه، تكرر مع الأهلي قبل سنوات، القدرة على التألق وجذب الانتباه في المناسبات الكبرى باتت عادة عند أسطورة الأهلي الذي نجح في احتلال صدارة هدافي مونديال الأندية عام 2006 برصيد 3 أهداف.. كأنما كان يريد أن يبعث برسالة مفادها: «لا أقلُ عنكم، بل ربما أزيد.. لم احترف في أوروبا، لم أشارك في كأس العالم لكنّ أسطورتي (المحلية) قادرة على أن تتمدد وتبلغ أبعد مدى».
«أميرُ القلوب»
في مصر توجد علاقة عكسية بين مقدار نجومية اللاعب وبين التزامه اخلاقيًا.. كلما نال نصيبًا أكبر من الشهرة كلما هوى إلى الدرك الأسفل، استثناءات قليلة «كسرت» تلك القاعدة..
أبوتريكة، لم يخالف القاعدة السابقة فحسب لكنّه عَكَس العلاقة بين أطرافها، كلما حاصرته النجومية وأحاطت به الأموال كلما صار أكثر تواضعًا وهدوءً.
وبينما كانت أسطورة اللاعب الكروية تتمدد وتغرس جذورها في الأعماق، كانت أسطورته الشعبية، التي تدور بالأساس حول شخصه لا لعبه، تكبرُ بسرعة تفوق قرينتها، وتصبغ عليه ألقابًا مثل «القديس» و«أمير القلوب» وغيرهما.. لاعبون من أمثال إبراهيم سعيد وطارق السعيد وأحمد حسام «ميدو» مهّدوا الطريق أمامه.. النماذج التي عاينتها الجماهير في السنوات القليلة التي سبقت مولد نجومية أبوتريكة كانت سلبية، لاعب يتألق، تهتف الجماهير باسمه، تطارده الكاميرات فيتبدل حاله، يهتم بمظهره، تتشعب علاقته النسائية إلى حد غير مسبوق، يعامل زملائه ومديره الفني بتكبرٍ..
إضافة إلى وجهه البشوش، والابتسامة الواسعة التي ترتسم عليه بشكل دائم.. كان أبوتريكة يملك «الوصفة الشعبية» للشخص «المؤدب»..
متدين، تدين شعبي بسيط محبب إلى النفوس، غير ممتلئ بمواعظ وتوجيهات وإرشادات، يستشهد بآيات وأحاديث بسيطة معروفة للجميع، يحمدُ الله بين الجملة وأختها، يسجد عقب كل هدف، يشير إلى السماء كثيرًا.. حين يتحدثُ عن الدين، لا يكون كطالب العلم الأكاديمي، هذا الذي «يرصُ» الأدلة الشرعية إلى جوار بعضها، يتحدث كعوام المصريين، الذين «يفخر بالانتماء إليهم»، بجمل مليئة بـ«الاكليشيهات» مثل «الدين يسر» و«الإسلام دين وسطية» وحين يتحدثُ عن الكتب التي يقرأها أو «المشايخ» الذين يفضلهم توقنُ أن منهجًا أو جماعة أو حزبًا لا يجتذبه إلى صفوفه بشكل كامل، يقرأ ما يقرأه المصريون حين يحاولون «التعمّق» أو الاستزاده كـ«تفسير ابن كثير» و«تفسير الشعراوي» و«رياض الصالحين»..وحين يسترسل في ذكر قصص أو مواعظ دينية يعود سريعًا إلى قواعده لأنه كما يقول عن نفسه: «أنا مش داعية وما وصلتش للدرجة دي».
متواضع، غير مُفرط في تواضعه، يعلم جيدًا أنه لاعب موهوب ولديه إمكانات متميزة، يثق في قدراته داخل الملعب، لكنه لا يتحدث كثيرًا عن إنجازاته، يكرر في غير موضع أن كل ما حققه «بفضل جميع اللاعبين» وأنه «لا يوجد نجم واحد في الفريق»
خجول حيي، يهرب من الكاميرات، يرتبك أحيانًا حين تنهال عليه عبارات الإشادة، لا يرد طلبًا، يحول الخجل بينه وبين كثيرين، ويؤرقه أحيانًا يقول إنه «حاول التخلص من خجله أكثر من مرة».
قليل الكلام، لا يتحدث أبوتريكة كثيرًا، يلوذ بالصمت في جل مواقفه، صمت كان وتدًا رئيسًا في بناء أسطورته، فبينما كانت الجماهير المتيّمة به تنسج من الواقع والخيال قصصًا عن أخلاق لاعبها المفضل كان الصمت مع الهدوء والابتسامة الشهيرة يدعمون تلك القصص..
فخور بماضيه حيثُ الفقر والمعاناة والتضحية، لا يتحدثُ عن سنواته الأولى بتلك النبرة المعتادة، نبرة «البطل الذي قهر المستحيل» و«واجه الصعوبات».. يتحدث عنها بسعادة وفخر وحنين جارف، يتلو تفاصيلها ببساطة دون اكتراث بردود الفعل.
يحكي أبوتريكة عن اللعب في «الجُرن» وعن «الكورة الشراب» التي كانت تسقط في «الرشّاح» في نهاية اليوم، عن الفقر الذي دفعه للعمل في «مصنع الطوب» نحو 6 أعوام، عن عام رحل فيه عن الترسانة لأنه لم يكن يملك ثمن «حذاء الكرة» ولم يكن يرغب في إرهاق والده ماديًا، عن الدورات الرمضانية في «بشتيل» و«ناهيا» و«صفط اللبن» وعن «أكل الدرة في الغيط».. لا ينفصل عن ماضيه، يحبه ويفتخر به دون أن يتفاخر بقدرته على تغيير هذا الواقع للأفضل.
يعتذر أبوتريكة حين يُخطئ.. حين توجه إلى جماهير الزمالك وأشار إليهم بيده وطالبهم بالصمت، خرج عقب المباراة ليعتذر للجماهير البيضاء عن ردة فعله قائلاً: «لست ملاكًا».
يتقبل بصدر رحب الانتقادات، يقول ردًا على من يصفونه بالنفاق و«التمثيل»: «رضا الناس غاية لاتدرك».
..«أبوتريكة أفضل شخص قابلته في حياتي.. شخص رائع، يفكر في مساعدة الناس، خاصة الفقراء، طوال الوقت، لا يرتكب أي خطأ، حين تحتاج إليه لا يخذلك أبدًا».. مانويل جوزيه المدير الفني السابق للأهلي.
«أبوتريكة مخلص في شغله مع المنتخب والنادي لدرجة تغيظ».. حسن شحاتة المدير الفني السابق لمنتخب مصر.
«يا ريت كل لاعيبة مصر في أخلاق أبوتريكة.. مؤدب جدًا جدًا ومتدين جدًا» محمد صلاح لاعب روما الإيطالي.
«لم تغره الأضواء، لم تغره الشهرة، اتمنى من النجوم الآخرين الاقتداء به»
نواف التمياط نجم الكرة السعودية.
الصدام
محمولاً على الأعناق أمام «بوابة النادي» يهتف بعصبية مع آلاف المشجعين بعد ساعات من مذبحة بورسعيد: «يا نجيب حقهم يا نموت زيّهم»..
منذ فبراير 2012 شهدت مسيرة أبوتريكة صدامات متعددة.. صدام مع إدارة ناديه حين رفض لعب مباراة السوبر أمام إنبي، صدام مع زملاء له بالفريق، على رأسهم حسام غالي، طالبوه بالمشاركة في اللقاء و«عدم إحراجهم»، صدام مع اتحاد الكرة حين شدد اللاعب على استحالة استئناف المنافسات دون جماهير لأنهم «رقم 1 وليس رقم 12» على حد قوله وقبل كل هذا صراع مع النظام السياسي الذي وضع مجموعات «أولتراس» وكل من يدعمها في مرمى نيرانه.
كانت الأمور بسيطة قبل 2011، تلعب الكرة وتتألق، تحظى بدعم جماهيري كبير وشهرة واسعة، بعد الثورة تبدل الحال، الاهتمام الشعبي بالكرة تضاءل، كل شيء تم تسييسه، عليك، أيًا كانت مهنتك أن تنتمي لأحد المعسكرات، كان أبوتريكة حريصًا، رغم الشائعات، على الوقوف في منطقة آمنة، الانحياز الوحيد الذي أبداه كان عدم الانضمام لمعسكر حسني مبارك الذي تهافت عليه جُل نجوم الكرة في مصر.
بين المذبحة في فبراير 2012 ومباراة السوبر المحلي في سبتمبر من العام نفسه، كان أبوتريكة متوهجًا مع الأهلي في دوري أبطال إفريقيا، تجاوز عامه الـ33 لكنه ما زال في قمة تألقه.. أمام الملعب المالي، في مباراة إياب دور الـ16 كان أبوتريكة جالسًا على مقاعد البدلاء، الأهلي خسر في الذهاب (1-0) ويحتاج إلى الفوز بفارق هدفين لضمان التأهل.. تلقت شباك إكرامي هدفًا مبكرًا وأصبحت المهمة أقرب إلى المستحيل، الأهلي يحتاج ثلاثة أهداف لتخطي المنافس.
دفع مانويل جوزيه بأبوتريكة وعبدالله السعيد في الدقيقة 42، سجل «الماجيكو» هدفًا أول من ضربة ثابتة في الدقائق الأولى من الشوط الثاني، وسجل هدفًا آخر من ركلة جزاء في الدقيقة 82، واختتم الثلاثية في الدقيقة 87.. انتزع الأهلي بطاقة التأهل لمرحلة المجموعات وسجل أبوتريكة أول هاتريك إفريقي في مسيرته.
بعد أشهر، تخلي عن قميصه رقم 22 وارتدي رقم 5 مع المنتخب الأوليمبي في أوليمبياد لندن، هدفان سجلهما في شباك البرازيل وبيلاروسيا وصنع مثلهما لمحمد صلاح لتتأهل مصر إلى ربع النهائي قبل الهزيمة من اليابان بثلاثية.
موافقة أبوتريكة على اللعب مع الأهلي في دوري الأبطال ثم مع المنتخب الأوليمبي في لندن ضاعفت الانتقادات الموجهة له حين رفض خوض مباراة السوبر بعد الأوليمبياد بفترة قليلة، قرر الأهلي توقيع عقوبة ضخمة على اللاعب المخضرم تقبلها دون ضجر.
بعد احتفاله بعيد ميلاده الـ34 بعشرة أيام كان أبوتريكة يتوج مع الأهلي بدوري أبطال إفريقيا، ومع نهاية العام تم اختياره أفضل لاعب داخل القارة السمراء للمرة الثالثة بعد عامي 2006 و2008.
قرر أبوتريكة، المحاط بدعم جماهيري هائل وانتقادات متزايدة من وسائل الإعلام خاصة الرسمية، الرحيل عن مصر مطلع عام 2013، انتقل إلى الإمارات مع فريق بني ياس، تألق، كعادته، وقاد الفريق للتتويج بدوري أبطال الخليج.
حلم قديم لم يحققه أبوتريكة حتى هذه اللحظة، قال في لقاء تليفزيوني عام 2008 إنه سيعتزل الكرة بعد المشاركة في كأس العالم 2010، عجز الفراعنة عن التأهل لمونديال جنوب إفريقيا، لكنّ فرصة تحقيق الحلم ما زالت قائمة.. جيل جديد يضم النني وصلاح وحجازي وغيرهم من الشباب يشاركون تريكة وجمعة وغالي وبقايا الجيل الذهبي في مهمة الوصول لمونديال البرازيل، البداية كانت مثالية، والثنائي المرعب في خط الهجوم «تريكة – صلاح» يبشر بالقدرة على التأهل لكأس العالم بعد غياب طويل.
6 انتصارات متتالية في المرحلة الثانية من التصفيات جعلت مصر قريبة من التأهل، سجل أبوتريكة 5 أهداف، ثقُل جسده، تراجع مردوده البدني قليلاً، لكنه ما زال حاسمًا قادرًا على ترجيح كفة المنتخب في كل مباراة يخوضها.
اقترب أسطورة الأهلي من المونديال، مواجهتان أمام غانا يمنحان مصر تأشيرة العبور للبرازيل..
في كوماسي، على عشب «بابا يارا» وعقب الهزيمة الساحقة من غانا «6-1» وقف أبوتريكة وحيدًا حزينًا، ينظر للسماء، كأنما يعاتبها، يغطي وجهه بيديه، يغلبه البكاء.. انتهى الحلم واتخذ قراره النهائي.
الوداع
كل شيء في مصر كان يتغير، قبل مباراة غانا بـ3 أشهر كانت جماعة الإخوان المسلمين تودّع الحكم ببيان 3 يوليو الشهير، الجماعة الغاضبة تقول إن أبوتريكة، المحاط بدوائر إخوانية في محل نشأته وصداقاته وأقربائه، يدعم الرئيس المعزول محمد مرسي، ويزعم بعضهم أنه يذهب سرًا إلى اعتصامهم الرئيس في «رابعة العدوية»..
أنباء عن اشتباك بين أسطورة الأهلي وبين ضابط جيش بعد قرار السلطة بـ«فض الاعتصام».. إعلاميون، ينهشون جسده، يردُ كعادته بالصمت، لا يتحدثُ، لا يُعقب، تألقه مع الأهلي رغم تقدمه في العمر يمنحه دعمًا جماهيريًا هائلاً، ويزيد غضب منتقديه وكارهيه والمنتفعين بتملق السلطة..
جماهير الأهلي، وغيرها، اتفقت، ضمنيًا، على أن تتجاوز قضية انتماء أبوتريكة، وسواء كان الانتماء فكريًا، كشخص مؤمن بأفكار الجماعة دون انخراط في التنظيم، أو عمليًا كعضو فاعل فيها، أو كان الأمر لا يتجاوز التعاطف مع أصدقاء الطفولة ورفقاء العمر.. أيًا كان الأمر قررت الجماهير تجاوزه إلى رحاب أوسع.. رحابُ التألق في الملاعب وحسن الخلق داخلها وخارجها.. كانت الأسطورة أقوى ممّا يُكاد لها، وكانت جملة «إخوان أو مش إخوان ما يهمنيش».. تتردد ليل نهار.
الانتقادات الحادة، ومعاناته المستمرة من «تغليب العاطفة على العقل.. والتأثُر بما يُقال عنه» وتبخر حلم المونديال دفعه لاتخاذ قرار الاعتزال لكنه كان ينتظر اللحظة المناسبة للتوقف.
13 دقيقة مرت من مباراة الذهاب أمام أورلاندو في ذهاب نهائي دوري أبطال إفريقيا في 2 نوفمبر 2013، أبوتريكة يقف خارج منطقة الجزاء، يستعد لتنفيذ ركلة ثابتة، زار الشباك كثيرًا من هذه الكرات، مُقوسة مُتقنة سددها أبوتريكة، سجل هدف التقدم..
ركض الأسطورة، نحو جماهير الأهلي القليلة المتواجدة في المدرجات، وّجه إليهم التحية بطريقة جديدة، كانت بمثابة إعلان الرحيل ووداع الملاعب..
«إذا كان الاعتزال قرارك فالحب ليس باختيارك».. رفعتها جماهير الأهلي لأسطورتها المُدلل بعد 8 أيام في مباراة العودة، رسالة مباراة الذهاب بلغتهم، فهموا مغزاها، أبوتريكة سيخلع حذاءه ويتوقف عن الركض..
مجددًا، زار أبوتريكة الشباك، سجل الهدف الأول، ركض نحو الجماهير، قفز إليهم، وقف على حافة المدرج يحتفل معهم بالهدف، ويلتحم بهم قبل الرحيل..
في الدقيقة 90، قرر محمد يوسف تغيير أبوتريكة، يقف عماد متعب على الخط ينتظر النزول، يرفع الأسطورة يديه للجماهير، يودعهم، يشكرهم، الهتافات ترجُ الملعب: «يا يا يا يا يا تريكة»..
رحل صاحب قميص «تعاطفًا مع غزة» وفي رصيده 29 بطولة مختلفة، رحل متوجًا بجائزة أفضل لاعب محلي داخل إفريقيا 4 مرات، وأفضل ثاني لاعب في القارة عام 2008، رحل متصدرًا ترتيب هدافي مصر في تصفيات كأس العالم برصيد 14 هدفًا، متصدرًا ترتيب هدافي مباريات الديربي بين الأهلي والزمالك برصيد 13 هدفًا مزينًا قائمة أفضل لاعب في كأس القارات عام 2009 وضيفًا دائمًا على استفتاءات الأكثر شعبية في العالم..
رحل أبوتريكة عن الملاعب تاركًا أسطورته الشعبية تواجه محاولات للفصل بينها وبين قواعدها الجماهيرية الحاضنة، محاولات «شبه رسمية» لاذ أبوتريكة أمامها بالصمت الجميل مكتفيًا بقوله: «مش بتكلم في السياسة».. ومحاولات أخرى رسمية أشد قوة واجهها بشجاعة: «نحنُ من نأتي بالأموال لتبقى في إيدينا وليست في قلوبنا.. تتحفظ على الأموال أو تتحفظ على من تتحفظ عليه لن أترك البلد وسأعمل فيها وعلى رقيها».