x

أسامة غريب أخلاق الزحام أسامة غريب الأحد 15-11-2015 21:19


أخلاق الزحام.. شاع استخدام هذا المصطلح للتدليل على الانتهازى وغير اللائق من السلوك الذى يظهر بكثرة فى المجتمعات المكتظة بالبشر والتى يحوز فيها الفرد سنتيمترات معدودة كمجال حيوى له، مطلوب منه أن يتحرك فى إطاره ويعمل وينتج ويبدع ويتناسل ويعيش حياة سعيدة!. ولقد عبّر الحكماء عن أهمية وجود مساحة كافية لكل إنسان حتى تتحقق إنسانيته، والسادة دارسو القانون يعرفون أن هناك حقاً إنسانياً فى شكل نصوص قانونية اسمه الحق فى الخصوصية.. هذا الحق للأسف معطل فى المجتمعات المزدحمة، ولا تستطيع كل النصوص أن تكفله للمواطن عندما يكون ما يفصله عن جاره هو سنتيمترات قليلة. ومسألة المجال الحيوى هذه ليست ترفاً لكنها ضرورة إنسانية لا تحفظ للإنسان خصوصيته فقط، لكن تمنحه قدرة على التنفس. وفى هذا الإطار فإننى أحياناً أصاب بدهشة عظيمة عندما أدخل السينما وتكون معظم المقاعد خالية ثم أجد شخصاً يترك كل البراح المتاح ويأتى للجلوس إلى جوارى.. هذا الشخص لا يقصد مضايقتى، لكنه نتاج أخلاق الزحام التى تجعل الناس يعتادون التلاصق ولا ينفرون منه، وربما كنت حساساً لهذا الأمر بعض الشىء لدرجة أننى كنت أقوم بقطع تذكرتين إحداهما على الممر عندما يكون الإقبال على العرض كبيراً، لكنى أقلعت عن الفكرة بعدما رأيت الكرسى الخالى الذى دفعت ثمنه يتم شغله ويحتاج معركة لإخلائه!. وقد حدثنى أحد الأصدقاء الأجانب ذات يوم عن سعادته ببعض الصور التى رآها عندنا ومن المستحيل أن يراها فى بلده، وكان من هذه المشاهد التى راقته مشهد خمسة أشخاص على موتوسيكل يجوب بهم الشوارع وهم يضحكون.. لقد رأى هذا الصديق أن وطنه يفتقد إلى هذه الحميمية فى العلاقة، حيث يصعب جداً أن ترى شخصاً فى الأتوبيس يلامس شخصاً آخر مهما بلغت شدة الزحام. ولكن من الواجب أن أقول لكم إن فكرة صديقى هذا قد تغيرت بعدما تعرض للتحرش فى مترو الأنفاق عندما اقترب منه لدرجة كبيرة جمع من الشباب الصيّع فمنحوه قدراً من الحميمية لم يستطع تحمله!.

ومن آيات سلوك الزحام أيضاً عندنا أنك عندما تكون فى البنك فإن الواقفين وراءك فى الطابور يتابعون كل العمليات التى تقوم بها من سحب وإيداع، كما يطّلعون على رصيدك وقد يناقشونك فى بعض شأنك البنكى أمام الشباك، وكذلك يفعل الواقفون أمام ماكينة سحب آلى بالشارع.. كل منهم يتابع ويتفاعل مع عمليات الآخرين.

وهذا كله من النادر أن تلقاه فى المجتمعات المبحبحة المرحرحة التى يطل السكان فيها على البحار، وتمتد أمام ناظريهم المروج الخضراء والجبال، ويمتلك كل منهم مسكناً خاصاً به، ويمكنه التحرك دون أن يصطدم بآخرين. وقد سمعت من الأديب الراحل حسين فوزى أن الذين يسكنون فى مدن مطلة على البحر يكونون أكثر ذكاء واستمتاعاً بالحياة، ليس فقط للسبب الشائع وهو أنهم يستنشقون اليود المفيد، ولكن بسبب أنهم يرنون إلى الأفق الفسيح فيتسع خيالهم ويحلق فى عوالم لا تحدها حدود.

من أشهر الأمثلة الدالة على سلوك الزحام ما نصادفه عند المصعد عندما يدخل أحد الأشخاص ثم يسارع بإغلاق الباب ويصعد وحده دون انتظار القادمين وراءه.. هذا الشخص قد لا يكون سيئاً فى مواقف أخرى، لكنه هنا وجد فرصة ليخلو إلى نفسه للحظات بسيطة، فلم يشأ أن يفلتها!.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية