x

اخبار فى ذكرى ملكة أحبَّها المصريون.. فريدة التى لم تَبِع أسرارها رغم حاجتها إلى المال (2 من 2) اخبار الخميس 12-11-2015 21:30


د. لوتس عبدالكريم

حين استقرت الملكة فريدة (5 من سبتمبر 1921- 15 من أكتوبر 1988)، فى مصر فى شقتها المتواضعة بسرايات المعادى، كان معاشها الشهرى مائتى جنيه، بينما كانت الخادمة تتقاضى ثلاثمائة!

كانت والدتها المُسِنَّة تسكن معها، وتنام على أريكة متواضعة «تاكى» مكسُوة (بالكليم).. وقد رأيتُ كيف ينام حفيدها (ساشا)، ابن ابنتها الأميرة فادية، فى زيارة لها.. حيث فرشت له على الأرض مُلاءة وتحت رأسه بعض الثياب!

سألتنى إن كان هناك أمل فى أن تطلب زيادة معاشها، وطلبت منى أن أذهب معها إلى رئيس الوزارة آنذاك (الدكتور عاطف صدقى) ولبيت طلبها. اقترحت أن أقود السيارة، كى لا يعرف السائق مكان اتجاهنا. وجلستْ فى أرضية السيارة كى لا يراها أحد. حين دخلنا إلى المكان.. التقيت برئيس الوزراء، وشرحت له حالة الملكة، وطلبها زيادة المعاش، ابتسم الدكتور عاطف صدقى ابتسامة واسعة، قائلًا: إن هذا هو أكبر معاش بالدولة! أحقًا؟

وماذا تتقاضى أرملتا السادات وعبدالناصر؟

أجاب: إن لهما مُخصَّصات!

وما تلك المخصصات؟

ولماذا لا يكون لهذه المسكينة مثلهما، والدولة مدينة لها بالكثير؟!

ثم.. طلبت لها سيارة حسب رجائها، ابتسم أيضًا قائلًا: إننى شخصيًّا لا أملك سيارة!

وعدنا بخفى حنين..

مارستْ الملكة فريدة فنَّها فى المرسم الذى جهزناه معًا حسب ذوقها فى سكنى بالمعادى، وافتُتح باحتفال كبير حضره سفراء أمريكا وأوروبا، ثم بعض الوزراء وكبار الكُتَّاب.. وبدأت حياةً من لونٍ جديد.. وكانت تبالغ فى الاقتصاد فى مصاريف المعرض، فغلَّفت النوافذ بستائر من قماش الدمور البسيط، صبغته باللون الكحلى..

أما اللوحات فكانت تعلقها على حوامل دون براويز أو تجهيز مُنمَّق، قائلةً: هذا هو فنى واللى يعجبه! ولن أكلف شيئًا أكثر.. ومع ذلك فقد أقبل الكثيرون على الشراء، وكنت أتولى أنا بيع لوحاتها فى غرفة داخلية، بعد أن تُغلِّفهَا بورقٍ خاص، وتضع إمضاءها فقط عند بيع اللوحة، وتقول إن هذا خشية اللصوص، وكانت تتجنب الاستماع إلى مناقشتى مع المشترى وتقول: اخفضى صوتك، واحترسى من الخدم والعمال فى المناقشة عن النقود. وكان ثمن اللوحة وقتها يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف من الجنيهات وأحيانًا أقل..

زارنا فى تلك الفترة الكاتب الكبير مصطفى أمين، وكان يحضر معه مشترون لا يفهمون فى الفن، ولكن يريدون المساعدة دون أن تُجْرَح كرامتها، فكان يقول لى: اختارى أقل اللوحات قيمةً، واطلبى أعلى سعر..

وهكذا كنا نحفظ لها كرامتها.. وكانت تنحاز إلى الفنانين الفطريين أمثال الشيخ رمضان سويلم وحسن الشرق، وتحضر معارضهم.

وكانت الملكة فريدة تتوق إلى السير فى الطرقات القديمة والتاريخية والحوارى والمقاهى البسيطة فى الأزهر، ونأكل معًا الفول والطعمية، وتقول ببساطتها إنها ألذ من اللحوم.. إن الملكة فريدة تميل إلى البساطة ورؤية العمال والفلاحين، وتقول: إن الزير والجرة والقلة هى الفطرة والأساس والأصل، لأنَّ الفطرة هى الجمال.

وكان نظامها فى الحياة بسيطًا ومُرتَّبًا.. حيث الأكل فى مواعيد منتظمة، والرياضة على البسكليت صباحًا فى شوارع المعادى، ثم سماع الموسيقى الكلاسيك لساعاتٍ طويلةٍ فى غرفة مغلقة يوميًّا.

وكان لقاؤنا فى أكثر الأوقات فى المرسم أو المعارض.. أو الذهاب إلى الأوبرا والمسرح..

كانت الملكة فريدة دائمًا متحفظة متوجسة من أن تمس أُناسًا مازالوا على قيد الحياة، وأُناسًا فارقوا الحياة لهم مكانتهم ودورهم فى حياتها.. كانت شحيحة بالبوح، معتزة بماضيها أيًّا كان ما لحقها منه.

وكانت حياتها قيِّمة، إذ الخوض فيها ينتقص من شأنها وتاريخها.. قدس الأقداس لا تطؤه قدم لكيلا تدنسه أو تغيِّره.

كانت ملكة فى سلوكها وتصرفها.. كم عُرِضَ عليها من أموال- وهى المحتاجة- من دول عربية وأجنبية لتذيع أسرار مليكها وحياتها فاروق (11 من فبراير 1920- 18 من مارس 1965)، وتكتب مذكراتها وتُصحِّح التاريخ، فكانت ترفض بإصرار وعناد.. وتقول: إذا تكلمت فسوف أجرح الكثيرين.

هى عندى كنز مغلق، وحصن منيع لا يقترب من أبوابه إلَّا أخص الخاصة.

وبعد تعب وكفاح وإخلاص وحوار وشك مرير تأنس قليلًا.. وتفتح قلبها قليلًا وتُدْلى ببعض الأسرار، وبلا تعليق أتظاهر فورًا بالنسيان وعدم الاهتمام حتى لا تندم أو تحزن.. ولم تكن فعلًا تهمنى معرفة أسرارها إلَّا بقدر من الفضول قد يساعدنى على حل لغز شخصيتها ومساعدتها.. إذْ كانت تكره الفضول، ولم تكن فضولية، فلم تسألنى أبدًا يومًا عن حياتى الشخصية، أو تفاصيل لتفسير برامجى اليومية أو علاقاتى، ولكنها لم تكن مثلى أو عاشت كأى من الناس.

إن فى حياتها تاريخًا أو تواريخ مصرية متعددة.. وهذه فرصتى لأتَعرَّف من خلالها نقاطًا غمضت على الكثيرين حول تاريخ مصر.

كانت تقول: لن أتكلم، ولن أكتب مذكرات، ولو عُرضت علىَّ الملايين!

ولكن بعد وقت طويل من وفاتها.. التقيت بالسياسى العظيم د. بطرس غالى- وكان صديقًا لها هو وزوجته ليا- وقال لى: كيف تقولين إنها لم تكتب مذكرات؟ لقد ترجمتُ مذكراتها من الفرنسية إلى العربية، بعد أن عهدت لى بذلك.

وشردت.. أين اختفت تلك المذكرات؟

ثم تذكرت، ويا لهول ما تذكرت.

إنه عقب وفاتها كانت بناتها الثلاث يُقمن بشقتها، وفى اليوم التالى لوفاتها، بينما أنا بالباب، فوجئت بدخان كثيف ينبعث من خلال باب الشقة، وطفقت أخبط الباب بعنف وقد ذهبت بى الظنون كل مذهب.. وأخيرًا فتحت لى الباب سامية التى كانت ترافقها أحيانًا بالمنزل، وفوجئت بالبنات وهن بصدد إحراق كل ما فى خزينتها من أوراق، خشية أن تكون هناك أسرار ملكية عائلية تضر بتاريخها أو تاريخهن. إنهن لا يفهمن اللغة العربية، ولذلك لم تكن هناك مراعاة لأى شىء مهم فى نظرهن، كذلك لم تساعدهن سامية على اختيار ما يهم.

ذهبت الأسرار والتاريخ والمادة الحقيقية التى تضىء ظلمة الشكوك، وتخبر بحقيقة التاريخ.. ذهبت المذكرات المهمة والتاريخ الحقيقى لأهم حقبة من أيام مصر فى حياة آخر ملوك مصر!

وأتساءل: أكان سر إعجابى بها وإصرارى على صداقتها أم انجذابى إليها فى بدء تعارفنا أنها كانت ملكة فوق رأسها تاج وتحت قدميها عرش؟ كثيرون جدًّا سألونى هذا السؤال:

أكان لذلك دخل فى تعلقى بها؟

بل أنا سألت نفسى مرارًا هذا السؤال..

كانت ملكة أجل، ولكن أكان ذلك وحده كافيًا لجذب اهتمام الآخرين مثلى بها؟ على العكس تمامًا.. ربما كان ذلك دافعًا إلى ابتعادهم أو اتخاذهم موقفًا ما.. وقليلون جدًّا مَن كان اهتمامهم أو محاولتهم الاتصال بها أو التعرف إليها.. بل بعضهم كان يخشى غضب السلطة..

لقد التقيت- فترة من العمر وأثناء حياتى الدبلوماسية- بملوك وأمراء وأباطرة ورؤساء وجلستُ إليهم.. وكنت أتعجب أننى لم ألمس للتاج سحرًا ولا للعرش أمرًا.. ولم أحس مرةً واحدةً فى السلطان بهيبة أو رهبة ولا جاذبية أو قوة.. على العكس من شعورى هذا تمامًا ما كان يحدث حين لقائى برمز من رموز الفكر والثقافة أو العلم والفن.. فإننى أشعر بالرهبة والإجلال الذى قد يصل إلى حد التقديس.. فالفنان صورة مُصَغَّرة للإله الذى يخلق.. السلطان لا يخلق ولكن الفن يخلق، وهذا هو الفارق بين القوتين.

هكذا هى.. كانت تقول دائمًا: «الملك والتاج يزولان، لكن الفن خالد باق دائم ما دامت الحياة».

وهذا هو السر الذى جمعنا، هو القوة التى ربطت أواصر صداقتنا، فاستمرت حتى الموت.

ومع ذلك فالملكات أحزانهن أكبر من أحزان البشر، والملكات خبراتهن تفيض بالثراء.. وأنا أحب الحزن وأحب الثراء.

وقد كَوَّن هذا الثنائى (الفنانة والملكة) مزيجًا رائعًا لإنسانة غير عادية، تركت فى حياتى أثرًا، بل آثارًا لا يمكن أبدًا أن تزول..

كانت مدرسة، وكانت فلسفة، وكانت حياة زاخرة صاخبة وعالمًا يموج بمختلف الأحاسيس وسيمفونية مختلطة الأنغام والألوان، وكانت لونًا من النساء لا يتكرر.

كانت ملكة فى فنها، وفنانة فى ملكها، وهو ما سهَّل عليها التضحية به فى سبيل المبدأ والقيمة والكرامة.

ولا توجد بسهولة تلك المرأة التى تخلع بيدها التاج، وتهجر العرش والمجد والثراء فى سبيل الكبرياء.

لا توجد بسهولة مَن تقول: لا للترف والجاه وبذخ الحياة.

لا توجد بسهولة مَن تشترى كرامتها بتلك التضحية، وذلك الثمن الباهظ الفادح الكبير.. ليست هناك سوى فريدة، ملكة الإحساس وملكة القرار.

عاشرتها إنسانة، وعاشرتها فنانة، وعرفت الملكة فيهما.

كانت تزعجها الأصوات العالية والكلمات النابية والموسيقى الرخيصة والأغانى القبيحة والألوان الصارخة، تحب النظام والدقة والانضباط إلى حد الوسوسة، تحب الموسيقى الكلاسيك والألوان الهادئة والأدب والاحتشام.

ذات حس مرهف وذوق رفيع وثقافة وذكاء حاد وشفافية وحدس لا يخيب. تحب الأصالة والبساطة، وكل ما هو أصيل وبسيط، تمقت الكذب والنفاق والخوض فى السير، قليلة الثقة بالناس.. ذات نزعة صوفية عميقة وزهد وتجرُّد وإيمان راسخ بالله ومعجزاته.. تحيط بيتها وكتبها وملابسها وحقائبها بالمصاحف والأحجبة والأدعية والتعاويذ، وإلى جانب القرآن، تحتفظ وتقرأ الإنجيل والمزامير وتحفظ كثيرًا من كلماتها..

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية