لم يتم ابتذال مفهوم الوطنية فى مصر على مر التاريخ كما يحدث الآن، فكل فريق ينسج مفهوما للوطنية على هواه ومقاسه، لكن الفريق الأكثر قبحا هو الفريق الذى يحتكرها ويعتبر أن التطبيل للسلطة هو صميم الوطنية وبرهانها، فريق مهووس بالمؤامرة فكل ما فى الكون يتآمر علينا ونحن ضحية المؤامرات التى تبدأ من تغيير المناخ عبر ألاعيب المجلس الأعلى لإدارة العالم إلى مؤامرة إغراق الإسكندرية وسد البلاعات! لا توجد لدينا مشكلة حقيقية ولا إخفاق ما، بل كلها مؤامرات لا تتوقف ويجب الاحتشاد فيها خلف أبواق النظام وترديد ما تقوله فأمريكا تتآمر علينا وبريطانيا، حتى الحليف الروسى تورط فى المؤامرة الكبرى علينا لإسقاط مصر بعد أن منع مواطنيه من المجىء لمصر خوفا عليهم من عدم ضبط الإجراءات الأمنية التى تكفل حمايتهم فى ظل الشكوك والتقارير المبدئية التى ترجح أن سقوط الطائرة الروسية كان عملا مدبرا.
يهتفون الآن (كلنا مع مصر) ضد الحرب العالمية المعلنة علينا ويطلبون كالعادة من الجميع الصمت متعللين بأننا فى حالة حرب فلا يجوز الكلام ولا التفكير ولا النقد وإذا أردت أن تكون وطنيا فاهتف كما يريدون: هذه مؤامرة ونحن مع السلطة ضد المؤامرة والقول ما تقول والصواب ما ترى! إذا كنت من هذا الفريق فاسمح لى أن أخبرك: إنت مش مع مصر.
تعتقد أنك تحميها لكنك تهدم أركانها وتغرقها أكثر وأكثر، فما تفعله لن يوقف انحدارها وسقوطها فى الهاوية لأنك تصر على أن كل شىء على ما يرام وأن من يتحدثون عن السلبيات وينصحون خونة وعملاء وكارهون ثم بدأت تصفهم اليوم بأنهم شامتون فى مصر!
من هذا الأحمق الذى يشمت فى وطنه؟ هل يشمت أحدُ فى نفسه؟ هل تغرق سفينة الوطن إن غرقت – لا قدر الله – بهؤلاء وتترك هؤلاء؟ من يخاف على بلده لن يمارس التخوين ولن يزايد على المخالفين له، بل سيهتم بنقاشات حقيقية وجادة حول هموم الوطن وتحدياته ومشاكله بحثا عن حلول لها، من يسخرون مما وصلنا إليه لا يسخرون من الوطن بل يسخرون من النهج والأساليب والعقلية التى أوصلتنا لهذا البؤس، وهى نفس العقلية التى تحرص على تعميق الشقاق الأهلى وبث خطابات الكراهية والاستقطاب وصناعة الخوف الذى يسيطر على عقول الناس فيحبس إرادتهم ويكسر عزيمتهم ويجعلهم أسرى وتابعين لصناع الخوف ومروجى الدجل والخرافة.
نحن مع مصر ولكن أى مصر؟ مصر المهووسة بالمؤامرة والتى تهرب من مواجهة مشاكلها وتدفن رأسها فى التراب؟ أم مصر التى تدرك مشاكلها وتصارح نفسها وتواجه تحدياتها بمنهجية وموضوعية وليس شعارات احتشاد حنجورية تجعل العالم يسخر منا، قلنا كثيرا قبل ذلك إن (الدنيا مش بتمشى بالدراع) وأن هذا الخطاب الذى يخدع الموالين ويجعلهم يصفقون للإخفاق لن يقنع العالم من حولنا ولن يحل مشاكلنا.
مصر لن تحيا والعالم يراها فاشلة وعاجزة عن حماية نفسها وضيوفها، نحن فى لحظة فارقة تحتاج للنضج والإحساس الجمعى بالمسؤولية وإنهاء ممارسات وسياسات بائسة ضاعفت مشاكلنا، حان الوقت قبل أن يتسع الخرق على الراقع.