يُعد التفكير بالتمنى فى الشأن العام عائقا أمام الخيال السياسى العلمى، لأنه يقود إلى اتخاذ المواقف والقرارات وفق ما يرغب فيه الفرد، وليس حسب أدلة علمية قائمة على إمعان النظر فى الواقع ودراسته.
وأطلق الكاتب البريطانى كريستوفر بوكر على التفكير بالتمنى اسم «دائرة الخيال»، التى تتكرر فى التاريخ والسياسات مثلما تتكرر فى حياة الأشخاص والقصص، وتبدأ بانخراط الفرد فى «حلم» يعيش فيه ويعتقد فى صحته، ثم لا يلبث أن يفيق، بعد أن يدرك أن الواقع يعمل ضد أمنياته، فيدخل فى قنوط، وهنا يسعى إلى بذل جهد، بغية أن يطوع الواقع لحلمه، دون جدوى، فيدخل كابوسا مخيفا، وتتبخر أمنياته.
وهنا يقول الكاتب المصرى حازم دياب: «ليس على الأمنيات رقيب، هذه هى القاعدة التى نشأت عليها، يشجعك كل مَن يحيط بك على الحلم دون حساب: تمنى كل شىء.. لكن الأمنيات كالأطفال، قد تتخّذ مساراً لا تتوقّعه، فى بعض الأحيان طريقة تهجئتك لكلمات الأمنية قد تحولّها ضدك. باختصار: الأمنيات ليست بالضرورة حلماً جميلاً يتحقق أمامك، بل قد تنقلب مارداً يقتات على طموحك.. الأمنية خطيرة، علينا الإيمان بذلك، التريّث فى الحلم قبل الشروع فيه ربما يجعل النتائج أقل وطأة».
ولا يقتصر التفكير بالتمنى على الأشياء الإيجابية المفرطة فى التفاؤل، لكنه يشمل أيضا الأشياء السلبية الغاطسة فى التشاؤم، والذى قد يعود إلى رغبة انتقامية أو يكون استنتاجا لخبرات سيئة لصاحبه، ويُسمى هذا «التفكير بالتمنى العكسى».
وينطوى التفكير بالتمنى على أخطاء أساسية تؤثر سلبا على بناء خيال سياسى علمى، وهو الذى يمكن إن تَلَمَّسْنا خطاه أن يقودنا إلى نتائج جيدة، لا تقف عند حد الأوهام أو الخيالات المريضة. وهناك خمسة مزالق يوقعنا فيها التفكير بالتمنى، تعوق الخيال العلمى، ويمكن ذكرها على النحو التالى:
1ـ يجعل التفكير بالتمنى صاحبه يقع فى انحراف معرفى، أو بمعنى أدق لا ينشغل بتحصيل معرفة علمية دقيقة تُعينه على تصور المستقبل أو الاقتراب من فهمه، أو وضع خطة لتحقيق الأهداف الآتية.
2ـ يمثل طريقة سيئة لاتخاذ القرار، فالقرار يجب أن يستند إلى دراسة المعطيات بشكل جيد، ووضع المسارات البديلة بطريقة دقيقة، أما القرار الذى يلهث وراء أمنية لا تستند إلى برهان فيكون محض مجازفة، وقد يقود إلى خسارة أو كارثة.
3ـ يؤدى إلى تشتيت الانتباه بعيدا عن الموضوع الأساسى، فالذى يفكر بالتمنى، فرداً كان أو مجموعة، يخرج عن تركيزه فى قضيته الرئيسية، مدفوعا بخيالات هائمة، لا تقف على قدمين.
4ـ يُكَرِّس طغيان العاطفة على العقل، ففى التمنى المحض يعلو الوجدان على البرهان، ويشرد الفرد فى صناعة مصائر، لا تعدو أن تكون تنفيساً عن أحلامه المكبوتة، وهى يمكنها أن تُحدث له نوعا من التوازن النفسى العارض، لكنه لا يدوم، لأنه قائم على الخداع، وسرعان ما يذوب فى الهواء، أو يتحطم تماما على صخرة الواقع.
5ـ يعزز حضور الأوهام أكثر من الحقائق، ومجافاة الحقيقة والاستسلام للوهم، وبذا لا يُثمر شيئا إيجابيا أبدا.
وطبق الباحث نيجيل هارفى الآثار السلبية للتفكير بالتمنى على حالة سياسية معينة تتمثل فى موقف بعض مناصرى حزب معين حين يدفعهم التفكير بالتمنى، أو البحث عن الوضع المثالى، إلى ذكر عيوب هذا الحزب، خلال استطلاع آرائهم بشأنه، فيضعهم مَن يُفَرغون نتائج هذا الاستطلاع فى خانة المعارضين، مع أنهم ليسوا كذلك، وهى نتيجة تتغير تماما لو تم استطلاع آرائهم فى لحظة يكون وعيهم فيها حاضرا حيال تهديد مباشر يتعرض له هذا الحزب، فوقتها يمكنهم أن ينتقلوا من الأمنيات إلى الواقع، ويظهر موقفهم الحقيقى حياله، وبالتالى تتغير نتيجة الاستطلاعات.
وتضرب د. وفاء إبراهيم مثلا سياسيا آخر عن خطورة التفكير بالتمنى، منطلقة من أن كل «ما لا يرتبط بالواقع ولا يمسه هو تفكير بالتمنى»، فتقارن بين الوحدة الأوروبية، التى قامت على دراسة معطيات الواقع بدقة فنجحت، رغم التباين والتفاوت بين دولها فى أمور شتى، وبين الوحدة العربية، التى كانت مجرد تفكير بالتمنى فأخفقت، رغم أن المشتركات بين العرب أكبر بكثير منها لدى الأوروبيين.
وهناك حالة من التفكير بالتمنى وقع فيها مثلا أحمد داوود أوغلو وقت أن كان وزير خارجية تركيا، إذ أعلن فى ثقة متناهية، فى أغسطس 2012، أنه لم يعد أمام الرئيس السورى بشار الأسد سوى بضعة أشهر، إن لم يكن بضعة أسابيع فقط، للرحيل. وتبين بمرور الوقت أن هذا التوقع خاطئ إلى درجة يُرثى لها، وهنا يقول أحد المحللين السياسيين الأتراك: «على ضوء تلك التصريحات التى أدلى بها أوغلو، لا يسعنا سوى أن نتساءل إذا كان ما يقوم به رئيس الوزراء التركى، الذى ارتكب أخطاء متسلسلة فى الموضوع السورى، هو تفكيراً بالتمنّى بدلاً من محاولة تقييم الوضع على ما هو عليه. إلا أنه حرىٌّ به أن يدرك أن التفكير بالتمنّى لم يُثمر أى نتائج بالنسبة لتركيا فى منطقة الشرق الأوسط، التى تُثبت أنها أكثر تعقيداً بأشواط مما تخيّله داوود أوغلو يوماً».
وهناك مثلان شهيران يُضربان فى هذا الصدد، الأول يتعلق بما قاله عالم الاقتصاد إيرفينج فيشر من أن «أسعار الأسهم وصلت إلى ما يشبه الهضبة دائمة الارتفاع»، قبل أسابيع قليلة من انهيار بورصة وول ستريت عام 1929 والتى دخل بعدها العالم فى كساد كبير، لم تُمْحَ آثاره من الذاكرة إلى الآن. والثانى يتعلق بإدارة الرئيس الأمريكى جون كيندى، التى رأت أنه إذا انتصرت القوات الكوبية فسيتمكن المقاتلون، الذين كان يدعمهم جهاز المخابرات الأمريكية (سى. آى. إيه)، من الهروب ولن يقعوا فى قبضة قوات الرئيس فيدل كاسترو، لأنهم سيذوبون وسط أهل الريف أثناء عملية غزو خليج الخنازير، التى بدأت فى إبريل 1960 وانتهت بفشل ذريع، إذ تمكن الجيش الثورى الكوبى من أسر 1179 شخصاً من مجموعات الإنزال، التى درَّبتها المخابرات الأمريكية، واستولى على خمس دبابات ثقيلة، وعشرات من الأسلحة الفردية، وثمانية رشاشات ثقيلة، والكثير من الرشاشات والأسلحة المضادة للطائرات وعشر سيارات نقل عسكرية، وتم إغراق أربع سفن، وإسقاط 12 طائرة قاذفة.
بهذا يبدو التفكير بالتمنى فى المسائل السياسية أو الشأن العام أحد الأسباب التى تمنع صاحبها من أن يلجأ إلى الخيال السياسى العلمى، الذى سيقوده إلى نتائج أفضل من الاستسلام لأمنيات قد لا تكون سوى مجرد طبابة عابرة يريح بها نفسه.
وقد بلغ التفكير بالتمنى ذروته مع الانتفاضات والثورات التى اندلعت فى عدد من الدول العربية، فكثير من الثوار، أو حتى عموم الناس الذين استبشروا بالثورات خيرا، فكروا بالتمنى فيما سيأتى، دون أن تكون هناك خطط واستراتيجيات منطلقة من الواقع تحمل أمانيهم هذه إلى التحقق فى المستقبل، وبذا تحولت «ثورة التطلعات»، التى اجتاحت عقولهم ونفوسهم فى البداية إلى «ثورة إحباطات»، جعلت كثيرين منهم إما يتملكهم حنين إلى الماضى، رغم أنه هو الذى أورثهم المشكلات والأزمات المعقدة التى يكابدونها، أو يجلدون ذواتهم وينْفَضُّون عن الفعل الثورى، أو يقبلون بالمتاح، وينصاعون للأمر الواقع، أو يستسلمون لخيالات هائمة تُفقدهم بمرور الوقت القدرة على فعل أى شىء عام إيجابى، أو يسقطون فى فخ الانشغال بمصالحهم ومنافعهم الذاتية الضيقة.
والخوف كل الخوف، بل المأساة كل المأساة، أن يكون كل ما قاله ويقوله لنا الرئيس عبدالفتاح السيسى مجرد «تفكير بالتمنى»، ويكتشف الشعب هذا بعد فوات الأوان، لاسيما أن هذه الأقوال لا تستند إلى خطة ولا برنامج ولا استراتيجية ولا حتى إلى خيال سياسى علمى خلاق.