هناك نوعان من الناس فى مصر: الذين يريدونها منطلقة صاعدة على سلم العلا والمجد، فتكون فى صفوف الدول المتقدمة، والذين يريدونها أن تكون قادرة على حل مشكلاتها، وألا تقع إلى ساحق بعيد عن الحالة التى وصلت إليها. الأولون لديهم أحلام كثيرة عن القدرة والاستعداد والإرادة والمواهب المكنونة لدى الشعب المصرى، والآخرون لديهم كوابيس حول توافر الشروط الضرورية للبقاء، فى شعب تتزايد أعداده بصورة يومية كثيفة، وتتراجع فيه قدرات ومواهب العمل والإنتاج بسرعة مخيفة.
أنصار المدرسة الأولى يطرحون ما يلى، أولاً: المشروعات العملاقة (للتذكرة: قناة السويس، الساحل الشمالى، المثلث الذهبى، المليون ونصف المليون فدان كمقدمة لأربعة ملايين فدان، 3200 كيلومتر من الطرق، إعادة تخطيط المحافظات المصرية لكى تصل إلى البحر الأحمر، العاصمة الإدارية، ومدينة زويل العلمية). وثانياً: تحقيق انطلاقة فى الاقتصاد القومى تكفى لرفع معدلات النمو إلى المستويات السابقة على ثورة يناير المباركة، والتى وصلت أحيانا إلى أكثر من 7% سنويا. وثالثاً: تحقيق دفعة قوية فى القدرات التسليحية للقوات المسلحة المصرية، من خلال حزمة سلاح جديدة كما ونوعا. أما أنصار المدرسة الثانية فتركيزهم المنطقى يجرى مع حل المشاكل الآنية للشعب المصرى، وتحسين مستوى المعيشة للفقراء من خلال: حد أدنى وآخر أقصى للأجور، توجيه موارد الدولة نحو حل مشكلات المرور والقمامة، وتحسين أحوال المدارس والمستشفيات العامة، وبالتأكيد العمل على تجنب الكوارث الكبرى كتلك التى جرت فى الإسكندرية مؤخرا.
بالطبع فإنه لا توجد مدرسة فى التفكير صافية ونقية، وهناك دائما بعض من هذا وذاك، ولكن دائما أيضا هناك الثقل الأساسى فى التفكير وما ينتج عنه من أفكار ومشروعات وتطبيقات عملية. ولحسن الحظ أن الرئيس عبدالفتاح السيسى ينتمى إلى المدرسة الأولى، فهذا ما قام عليه برنامجه الانتخابى الذى قام على مبادئ العمل الشاق، والإنتاجية العالية، والمشروعات الكبرى، والسياسة الخارجية النشطة. وهذا- من ناحية أخرى- هو ما جرى فى الدول المعروفة الآن باسم «الاقتصاديات البازغة»، والتى تجاوز عدد منها، بل تفوق، على الدول المعروفة بـ«الدول المتقدمة». والثابت أيضا أن اتباع المدرسة الثانية لم يحقق أبدا انطلاقة فى أى من دول العالم، وبالكاد فإنه يكفى لكى يجعلها لا تقع فى هوة سحيقة. المعضلة الكبرى فى مصر هى أن أنصار المدرسة الأولى فى التطبيق يتحولون- بقصد أو بغير قصد، نتيجة البيروقراطية أو السير فيما اعتدنا عليه- إلى أن يكونوا من الفاعلين فى المدرسة الثانية التى عنوانها: «إدارة الفقر فى البلاد».
المعضلة الأخرى- التى لا تقل خطورة- هى أن المدرسة الأولى تحتاج شروطا صعبة من أول العمل الشاق حتى اليقظة طوال الليل، وما بينهما يوجد تحرير الاقتصاد حتى يستطيع الانطلاق، وتحرير الإنسان حتى يتخلص من تلابيب تفكير الفقر والفاقة والسجن داخل الماضى. يوجد أيضا أن المدرسة الأولى تعنى الدخول إلى عالم الخبرات العالية والجديدة، فالقبول بالدخول فى السباق العالمى هو فى النهاية مباراة بين العقول التى تعرف أنه لا توجد فى النهاية مشكلة بلا حل، وأن العالم الذى سبقنا بمراحل مر بكل ما مررنا به، ولكن الفارق بيننا وبينه أنه قرر الخروج منها بـ«إدارة الثروة»، ونحن قررنا أن نبقى كما تقول المدرسة الثانية أسرى لها نمارس «إدارة الفقر». هنا نجد أنفسنا فورا فى مواجهة السياسة التى هى- فى أحد تعريفاتها- فن إدارة المجتمعات وحشد وتعبئة مواردها، لتحقيق أهداف بعينها، لها أولويات محددة.
المعضلة الثالثة فى مدرسة الانطلاق تقع مع نفسها، وهى قائمة فى السلطة، فتختلط فى عيونها الأبواب، وهى لا تستطيع التمييز ما بين النفاق والتقدير، وما بين الحلفاء والأعداء (مع استثناء مَن قاموا بالعصيان وحمل السلاح فى عداء صريح مع الدولة)، وما بين النقد والعداء، وهى سريعة الوقوع فى أحضان البيروقراطية، التى ترى تحرير الاقتصاد والإنسان أقرب الطرق إلى الفوضى، وإلى الكارثة الكبرى، التى تجعل البعض يغتنى والبعض الآخر يظل فقيرا. كل هذه المعضلات تتحول إلى أحمال ثقيلة تثير التوجس عما إذا كان هناك خطأ أساسى فى التفكير، أو أن الشعب المصرى ليس بتلك العظمة التى تولت العقل والقلب من قبل، أو أن هناك مؤامرة ما وراء تلك الحالة، التى لا تعرف لحظات من التفاؤل والسعادة (سقوط الإخوان، افتتاح قناة السويس الجديدة، المؤتمر الاقتصادى)، إلا وتعقبها أزمنة من التشاؤم والكوارث والأرقام المزعجة للغاية، التى آخرها ظهور مصر فى المكانة 131 من تقرير «إقامة المشروعات Doing Business»، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، بعد أن كانت فى المكانة 112، فإذا كان هناك انزعاج بأننا نتراجع ولا نتقدم، فربما يكون مفيداً الاطلاع على تقرير البرنامج عن مصر والتوصيات التفصيلية الواردة فيه، وساعتها ربما نكون على أول طريق الانطلاق إذا كانت هناك إرادة لتنفيذها.