الأيام التى قضيتها فى باريس، طوال هذا الأسبوع، كانت فرصة للابتعاد عن هذا «العك» الانتخابى الحاصل على كل مستوى، ثم إنها كانت فرصة أيضاً للتأمل فيما كان بيننا، كعرب ومسلمين، وبين فرنسا، من تاريخ قديم، انتهى بمأساة!
ولو كان عندى وقت هناك، لكنت قد سعيت لأن أرى مدينة بواتييه الفرنسية، التى وقعت عندها المأساة بكل أبعادها فى القرن الثامن الميلادى، وعلى وجه التحديد فى عام 732!
ففى ذلك الوقت المبكر من تاريخ الإسلام، كانت الدولة الأموية قد قامت، بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين، وكان مركز حكمها قد استقر فى دمشق، وكان المسلمون قد بدأوا يتوسعون فى كل اتجاه، وكانوا قد اتجهوا غرباً إلى شمال أفريقيا، حتى أخضعوه كله لسلطان الأمويين، وكان موسى بن نصير هو بطل ذلك الإخضاع الذى تم بعد معارك دامية مع البربر!
ومن شمال أفريقيا، عبروا مضيق جبل طارق فى اتجاه إسبانيا، فأخضعوا إسبانيا كلها أيضاً، وكانت قد اشتهرت قديماً بالأندلس.
وكان قائد معركة إسبانيا هو طارق بن زياد، الذى لما عبر المضيق بقواته، وصاروا جميعاً على الأرض الإسبانية، أعطى ظهره لمياه المضيق، ثم خاطب القوات بعبارته الشهيرة: البحر من ورائكم، والعدو أمامكم.. أى أنه لا مفر من النصر!
وفيما بعد طارق، جاء قادة كثيرون لجيوشنا هناك، إلى أن استقر عبدالرحمن الغافقى على رأس الجيش، وكان التفكير منذ البداية، ومنذ ما قبل مجىء الغافقى، يمضى فى اتجاه أن يقطع المسلمون إسبانيا، ومنها إلى فرنسا، فإيطاليا، ثم اليونان عن طريق البحر المتوسط، وصولاً إلى تركيا، ومنها إلى دمشق.. ولو تأملت أنت هذا المسار على الخريطة أمامك، فسوف تكتشف أنه يشبه الدائرة، وأن هذه الدائرة لو كتب الله لها أن تكتمل، لكانت قد طوقت البحر المتوسط، من اتجاهاته الأربعة!
غير أن الغافقى حين توجه إلى جنوب فرنسا، مروراً من إسبانيا، قد اصطدم بقوات جرى حشدها أمامه، لم تكن فى حسبانه، ويبدو أن الأوروبيين، أو الفرنج، كما كانوا يطلقون عليهم زمان، قد أحسوا بالخطر حقاً، فاحتشدوا فى مواجهة القائد الغافقى، كما لم يحتشدوا لشىء من قبل، ودارت بين الطرفين معارك ومناوشات كثيرة، وقد هلك فيها كثيرون، إلى أن جاءت معركة بلاط الشهداء، التى كانت فاصلة، فانهزم فيها المسلمون، وقيل إن اسمها هذا يعود إلى كثرة الذين سقطوا فيها، وتصل بعض التقديرات لهم إلى أنهم كانوا 70 ألفاً من الشهداء!
كانت تلك المعركة هى معركة انكسار الأمل، فى إكمال الدائرة إياها، وكان أن عاد المسلمون إلى إسبانيا، وكان أن بقوا فيها ثمانية قرون، وكان السؤال الذى بلا إجابة إلى الآن: لو أن جيش الغافقى قد انتصر فى بلاط الشهداء، فهل كان المسلمون سوف يغيرون من الفرنسيين خصوصاً والأوروبيين عموماً، أم العكس؟!.. من ناحيتى تمنيت، ولاأزال، أتمنى هذا العكس!